كلاسيكيات الموسيقى العربية * أرشيف * استماع *  تحميل *  نقد فنى *  تحليل موسيقى* أفلام * صور *  تسجيلات * كلاسيكيات الموسيقى العربية
كلاسيكيات الموسيقى العربية * الخمسة الكبار * سيد درويش * محمد القصبجى * زكريا أحمد * محمد عبد الوهاب * رياض السنباطى * نجوم الغناء العربى * أم كلثوم * عبد الوهاب * فيروز * عبد الحليم * ألحان التراث * موشحات * قصائد * أدوار * كلاسيكيات الموسيقى العربية

الأحد، 14 أكتوبر 2012

المايسترو – ج3


الأعمال التي يمكن عزفها بدون وجود مايسترو!
نلاحظ أحيانا أن هناك أركسترات تعزف بدون وجود مايسترو، ذلك يكون في حالة لو أن الأوركسترا كان صغيراً كأن يكون أوركسترا وتري أو أوركسترا وتري مضافا له بعض آلات النفخ (مثل أوركسترا موتسارت)، في هذه الحالة ينوب عن المايسترو عازف الكمان الأول في الأوركسترا والذي يسمى كونسيرتماستر concertmaster or Leader أو كما يحلو للبضع تسميته بالعربية (رائد الأوركسترا)، هذا العازف هو من يعطي الإيعاز بالبدء والنهاية ولو حصل تغيير في السرع وشدة الصوت وخفوته فهو من يكون مسؤولا عن ذلك في حركات منه بواسطة كمانه وذلك أثناء العزف (ولو كان عازف البيانو أو الهاربسيكورد هو من ينوب عن المايسترو فهو يقود الأوركسترا بيديه حينما تكون لديه سكتة أو برأسه حينما يكون منهمكا في العزف).
أحيانا يتولى عازف السولو القيادة لو كان العمل كونشيرتو كأن يكون كونشيرتو الكمان والأوركسترا (على سبيل المثال)، لكن ذلك لا يمكن أن يحدث في أعمال موسيقية كبيرة ومعقدة، فلا يمكن أن يحل عازف السولو بديلا عن المايسترو في كونشيرتو مثل كونشيرتو سيبيليوس أو تشايكوفسكي للكمان والأوركسترا بسبب أن النوتة المكتوبة للكمان هي صعبة جدا ولا تسمح لعازف السولو بالانشغال بالقيادة، لكن في أعمال أقل تعقيدا مثل بعض كونشيرتات موتسارت فذلك ممكن وهذا هو السبب أننا نجد في بعض كونشيرتات موتسارت للكمان والأوركسترا (على سبيل المثال) يتولى عازف السولو القيادة، سبب ذلك هو أن في بعض أعمال موتسارت أو هايدن لا توجد تعقيدات كثيرة.
هذه هي موسيقى مسائية صغيرة تعزف بدون مايسترو.


وهذا كونشيرتو لموتسارت للكمان والأوركسترا يقود العمل عازفة السولو الشهيرة آننا صوفي موتتر بدون وجود أي مايسترو.


نلاحظ في الفيديو أعلاه وفي بدء الموضوع الثاني في الدقيقة 0:33 حصل تبطيء بسيط في السرعة بين الموضوعين، هذا أيضا من مهام المايسترو (أو من ينوب عنه) فموتسارت لم يكتب أي تبطيء هنا، والتبطيء البسيط هنا ضروري لتوضيح الفارق بين اللحنين الأول والثاني (المضاد له).
هل أن واجب المايسترو في الحفلات يكون تمثيلا مسرحيا؟
يستحسن إعادة السؤال ليكون:
هل أن واجب المايسترو هو فقط في البروفات ولا تكون له أي أهمية أثناء العزف في الحفلة أو الكونسيرت ووجوده استعراضيا فقط؟
تكون مهمة المايسترو في الكونسيرت أو الحفلة أكثر صعوبة من البروفات، حيث أنه سيحتاج لتركيزه بالكامل وسوف يحتاج لمجهود أكبر، وربما أعلى مما كان يبذله في البروفات. السبب هو أنه لو حصلت هفوة أو خطأ أو خلل أو مشكلة موسيقية في البروفات فإن المايسترو يتمكن من أيقاف العزف ويقوم بحل المشكلة أو الخلل، لكن لو حصلت مثل هذه المشكلة في الكونسيرت فلا يمكن بتاتاً للمايسترو أن يوقف العزف أمام الجمهور بل يجب أن يتجاهلها وأن لا يظهر ذلك على وجهه لكي لا يلاحظ  الجمهور الخطأ، لنتذكر بأن الجمهور يأتي للكونسيرت لكي يستمتع بسماع الموسيقى ولم يأتي لكي يشاهد تصحيح أخطاء الأوركسترا.

قبل فترة كنت جالسا في عرض موسيقي لأوركسترا محترف معروف، كانوا يعزفون سيمفونية دفورجاك الثامنة، حينما بدأوا العزف كانت هناك مصاحبة هارمونية من قبل بعض آلات النفخ (الترومبون الأول والثاني والفاجوت)، صدرت بعض الأصوات التي لم تكن متناسقة هارمونيا تناسقا تاماً، ربما لم يحس أحدا من الجمهور بذلك لكن وقعها كان سيئا علي لأنني كنت أستمع للموسقى بتركيز عالي، أنا أو أي موسيقي له خبرة طويلة في الأوركسترا أو يعرف عن علم الآلات أو Orchestration سوف يعرف السبب! السبب كان يكمن في أن آلات النفخ لم تكن جاهزة للعزف حيث أن الأوركسترا بقيت جالسة فترة طويلة في انتظار أن يبدأوا العزف ما سبب أن تكون آلات النفخ باردة وليست جاهزة، لكن بعد ثواني قلائل انتظم العزف ولم أعد أسمع أيا من تلك النوتات غير المتناسقة.
في الحركة الثالثة من نفس السيمفونية حصل خللا إيقاعيا بسيطا في مكان ما بين الكمان الأول والفيولا، وفي الإعادة حصل نفس الخلل لكن بصورة أخف، كان الخلل في الصفوف الخلفية من آلات الفيولا. لم يكن باستطاعة المايسترو إيقاف العمل ليصحح المشكلة لأنهم يعزفون في كونسيرت وأمام جمهور، لكن لو حصل ذلك في البروفة فلابد وبالتأكيد سوف يوقفهم المايسترو ليصحح الخطأ ويعالج المشكلة، ربما تكمن وراء تغيير حتمي في القوس. بالمناسبة فأكثر الأوركسترات شهرة في العالم معرضة لحدوث خطأ أو خلل صغير على المسرح لأن العازفين هم من البشر، حتى أعظم السوليستات ممكن أن يخطأ، لكن يجب أن لا يتوقف أبدا مهما حصل.

نلاحظ في هذا الفيديو حصل نفس الخلل الإيقاعي في نفس المكان، هذا هو أوركسترا شباب، ممكن ملاحظة الخلل الذي قصدته في مؤشر الوقت 0:38 أرجو ملاحظة الكمان الثاني والفيولا حينما يدخلون بعد الكمان الأول (الفيولا والكمان الثاني يجلسون إلى يمين المايستر أو على يمين المسرح). نلاحظ في الإعادة كان الخلل أقل بكثير جدا وهو في مؤشر الوقت 4:07، نلاحظ كيف أن المايسترو يحاول معالجة المشكلة في أن يغير إشارة يده في القيادة من إعطاء إشارة ضربة لكل بار وقبل ذلك المكان يغير الإشارة لتصبح ثلاث ضربات لكل بار لكي يؤكد الإيقاع.


نلاحظ أن عزف الأوركسترا في الفيديوا أعلاه ليس مرضيا ومشبعا وذلك سببه أنه أوركسترا شباب وليس محترفين.
لنأخذ مثالا آخر ومع أوركسترا شبابي آخر تعزف الحركة الأولى من نفس السيمفونية



ولنقارن مع أوركسترا فيينا فيلهارمونيك ومع المايسترر العظيم كارايان


نلاحظ في التسجيل الأول أن المايسترو يبدأ بقيادة الحركة بإعطاء أربع إشارة من أربع ضربات للبار الواحد بينما كاريان يعطي إشارة ضربتين للبار الواحد، السبب في أن المايسترو الأول يعطي أربع ضربات للبار هو لكي يشد إيقاع الأوركسترا، لكن كارايان لا يحتاج لأن يفعل ذلك، ولا ننسى الفارق الكبير بين مستوى كلا الأوركستريين، ناهيك عن الفارق الهائل بين مستوى كاريان والمايسترو الآخر.
ملاحظة مهمة، وجه المايسترو غالبا ما يجب أن يعبر عن حالات الموسيقى ويعطي الإيحاء للعازفين أن يكون العزف في هذا المكان بحزن أو بفرح أو بحب وإلى غيره.

ماذا لو أن المايسترو تحول إلى مترونوم بشري؟
علينا أن نعرف أولا ما هو المترونوم:
المترونوم هو جهاز يعطي ضربات إيقاعية منتظمة. يقترن عمل المترونوم بعمل الساعة، أي لو اخترنا للمترونوم أن يعطينا ضربات بسرعة 80 هذا يعني أن المترونوم سوف يعطينا 80 ضربة في الدقيقة الواحدة، كل الضربات متساوية تماما مثل الساعة.
في الجزء الثاني تطرقت في الجزء الثاني كيف تطورت أهمية المايسترو، وذكرت أنه في العصور القديمة كان المايسترو شبيها بعمل المترونوم، حيث أنه كان يعطي الضربات إما بقدمه أو بعصاه على الأرض أو أن يضرب بعصا على طرف الأورجن أو غير ذلك، لكن بعد ذلك أصبح دور المايسترو أكثر أهمية من إعطاء الزمن فقط، وفي العصور اللاحقة للعصر الكلاسيكي أصبح دور المايسترو مهما للغاية وتعدى مرحلة أنه مترونوم بشري.

لو افترضنا أن مايسترو قاد عملا ما بنفس السرعة تماما ولم يجري أي تغيير في السرعة، بالتأكيد لأصبح العمل مملا جدا وجافا للغاية، أي أقرب لعزف الكومبيوتر، أغلب الأعمال لا يكتب المؤلف تغييرات كثيرة في السرعة وهنا يأتي دور المايسترو، عليه أن يعطي الروح للعمل لكي لا تكون مثل عزف الكومبيوتر، أي مستمع يفضل سماع العزف الحي على سماع العزف من الكومبيوتر لأنه يكون رتيبا جدا ولا يحس بالآدمية وهي عنصر هام جدا.

لنشاهد هذا العمل لبنيامين بريتين ومع المايسترو العظيم سايمون ريتل، نلاحظ كيف أن المايسترو أبطأ قليلا في نهاية الجملة في الوقت 0:17، بريتين لم يكتب أي تغيير في الزمن هنا لكن ريتل ارتآى أن يبطئ السرعة قليلا ليوضح انتهاء الجملة الموسيقية وبداية جملة جديدة.


لنشاهد افتتاحية إجمونت لبيتهوفن، كيف أن المايسترو لا يبقي السرعة مثل المترونوم لا في المقدمة البطيئة ولا في الجزء السريع، بيتهوفن لم يكتب أي تغيير في السرعة في المقدمة البطيئة فقط كتبت فوق النوتة الأولى علامة فيرماتا أي أن النوتة طويلة بدون زمن معين وبحسب ذوق المايسترو، كتب بيتهوفن تغييرا واحدا مباشرا في الجزء السريع، نلاحظ أن المايسترو يقود بحرية أماكن كثير من المقدمة أي غير مترونومي أبدا، نلاحظ كيف أن المايسترو يؤخر عزف النوتة الأخيرة في 0:35، بيتهوفن لم يكتب أي تبطيء في هذا المكان. في 2:33 كتب بيتهوفن تغييرا مفاجئا في السرعة لكن المايسترو في هذا التسجيل ارتآى أن يغير السرعة بشكل تدرجي وليس كما كتب بيتهوفن.



نلاحظ في هذا الأوركسترا وهذا المكان بالتحديد أي في 2:15 كيف أن المايسترو هنا يغير السرعة مباشرة وبالضبط كما كتب بيتهوفن حيث كتب "سريع" أو Allegro



لنشاهد المايسترو العظيم ليورنالد برينشتاين يقود الحركة الأولى من ماهلر الرابعة نستطيع أن نشاهد كل التعبيرات الموسيقية في يدي المايسترو وعلى وجهه.



قبل أن أنهي كلامي دعونا نشاهد بروفة أوركسترا مع سايمون راتل.



الكلام يطول ويطول لكنني ارتأيت أن أتوقف عن الكتابة.
لدي سؤال بعد أن كتبت هذا الكلام عن المايسترو في الموسيقى الكلاسيك، من يتصور بأن هناك جدوى من وجود مايسترو لدى الفرق التي تعزف الموسيقى العربية التقليدية، (لا أقصد الأركسترات التي تعزف مؤلفات لمؤلفين عرب)؟
قبل قليل كنت أشاهد قناة عربية وفيها ما يسمونه مايسترو يقف أمام فرقة موسيقية كبيرة ومحترمة جدا، هذا المايسترو لا يعرف كيف تكون إشارة 2/4، أليس هذا مخجلا أن تأتي إشارته مقلوبة؟ لماذا يقف إذاً وما هو واجبه الموسيقي؟ واجبه فقط إداري لا أكثر!
لدي أمل وهو أن يصبح لدينا في كل مدينة عربية أوركسترا احترافي وعدد من أوركسترات الهواة، لكن متى يحصل ذلك؟ لن يحصل إلا بعد أن ينتهي شيء اسمه فقر وجهل في بلاد تعوم على النفط وتنعم بالشمس طوال العام وينتهي الفساد والطغيان عن شعوبنا المسكينة المستضعفة، وحينما يبجلوا الفنان ويعرفون بأنه إنسان أكثر من العادي مثلما يفعلون في الغرب، فقد منحوا لقب سير للمايسترو سايمون رتل، متى يحصل ذلك في بلادنا العربية؟؟!!

ملخص ما سبق:
المايسترو هو من يدير دفة الأوركسترا، وممكن تشبيه المايسترو بمخرج مسرحية عظيمة أو مخرج فيلم عظيم من أفلام هوليود، الكل لا يرى المخرج والذي هو أهم شيء في الفيلم، نفس الشيء فأغلب المتفرجين لا يعرفون مدى أهمية المايسترو ولا يعرفون بأن على كل عازف في الأوركسترا أن لا يغيب المايسترو عن نظره حتى ولو لثانية ولو حصل وأن لم ينتبه أحد في جزء من الثانية للمايسترو وحركاته (خصوصا في أماكن معينة) فممكن أن يرتكب خطأ ويسمعه كل من في الصالة.
لو حصل وأن أخرج مخرجا ما قصة لتصبح فيلما وبعد ذلك أخرج مخرجاً آخراً نفس القصة واستخدم نفس السيناريو المستخدم سابقا سوف نلاحظ بأن هناك فارقا كبيرا بين الفيلمين.
نفس الشيء لو حصل موسيقيا فلو عزفت أوركسترا من الدرجة الأولى عملا معينا وقاد العمل قائد كبير، ثم عزفت نفس الأوركسترا نفس العمل مستخدمة نفس النوتات وقادها أيضا مايسترو آخر بنفس مستوى المايسترو السابق للاحظنا فروقات كبيرة في طريقتي العزف علما بأنها نفس الأوركسترا ونفس العمل ونفس النوتات، هذا يعني أن السبب هو أن لكل مايسترو له رؤية خاصة به (والكلام عن المايسترو من الدرجة فوق العادية).
باختصار شديد لولا وجود المايسترو لأصبح العزف مثل الماكنة السيئة فالمايسترو هو من يضع الروح للعمل.
مع تحيات أحمد الجوادي

الأحد، 7 أكتوبر 2012

فات الميعاد - تحليل موسيقى

موسيقى فات الميعاد
ألحان بليغ حمدى - غناء أم كلثوم
المقدمة الموسيقية 
تحليل موسيقى د.أسامة عفيفى
تمهيـــد:
قدمت فات الميعاد فى شتاء عام 1967 ، وكان بليغ حمدى قد لحن لأم كلثوم قبلها عدة أغنيات بدأت بأغنية حب إيه عام 1959 اقتربت فى أسلوبها من أسلوب ألحان رياض السنباطى العاطفية لأم كلثوم ولكن بطريقة أخف فى التعامل مع الكلمات واللحن وامتازت ببساطة خاصة جعلتها أقرب للترديد بل والحفظ من قبل الجمهور ، وساهمت ألحان بليغ مع ألحان محمد عبد الوهاب فى انتقال أغانى أم كلثوم إلى مرحلة جديدة فبعد أن تعود الجمهور طويلا على أن فن أم كلثوم للسماع فقط أصبح يغنى أغانيها ، وربما لا تزال أغنية سيرة الحب خير مثال على ذلك حتى الآن وهى من الأغنيات المفضلة لهواة الغناء والطرب الشرقى والإيقاع الخفيف الذى يغلب عليه الطابع الشعبى 

الطابع العام:
فى فات الميعاد فقد اللحن الغنائى هذه الخاصية ، أى خفة اللحن ، وربما كان السبب فى ذلك هو الكلمات نفسها للشاعر مرسى جميل عزيز التى تتحدث عن حالة خاصة من فقدان العاطفة أكثر منها عن تولدها أو توهجها ، واندماج الملحن فى التعبير عن هذه الحالة فهى تقول فى مطلعها: 
فات المعاد ، وبقينا بعاد 
والنار بقت دخان ورماد
تفيـد بإيه يا نـدم ، وتعمل ايه ياعتاب
طالت ليالى الألم ، واتفرقوا الاحباب 
غلب التعبير على أسلوب بليغ حمدى من أول جزء فى العمل وهو المقدمة ، فجاءت حزينة معبرة عن الجو النفسى السائد ، وشتان بين هذا الجو وأغنية سيرة الحب المليئة بالفرح والمرح والتفاؤل
تتميز المقدمة الموسيقية بقدر عال من الإحساس الرقيق والتعبير الموسيقى الغنى رغم بساطة جملها ، ويلاحظ فى هذه المقدمة التى يمكن أن تصنف تحت عنوان الموسيقى الهادئة عدم استخدام الإيقاعات السريعة أو الراقصة ، بل إن جملة الإيقاع تمثلت فقط فى فقرة أداء الساكسفون وتكرارها بالتبادل مع الأوركسترا واستغرقت الجملة الإيقاعية كلها دقيقتين فقط من خمس دقائق هى كل زمن المقدمة
كما تتميز بتآلف مقاطعها رغم تأليفها من أربعة مقامات مختلفة ، وهى من المقطوعات الموسيقية القليلة التى تبدأ فى مقام وتنتهى فى مقام آخر على عكس الشائع فى تأليف المقطوعات والمقدمات المركبة 
التكوين الفنى:
تتكون مقدمة فات الميعاد من 4 مقاطع رئيسية كل منها من مقام مختلف هى :
الحجاز ، الفرحفزا ، الكورد ، و راحة الأرواح وهو مقام الغناء
المقطع الأول مقطع حوارى غير موقع بين آلات القانون والباص والأوركسترا الوترى على مقام الحجاز
المقطع الثانى ميلودى انسيابى غير موقع على مقام فرحفزا ( نهاوند النوا / رابعة الحجاز) يؤديه الأوركسترا بالتبادل مع الجيتار
المقطع الثالث لحن ميلودى على مقام الكورد موقع بإيقاع رباعى هادئ مشكل من ثلاث تكات ودم فى آخره : تك/ تك/ تك/ دم ، بعزف منفرد على آلة الساكسفون النحاسية فى أداء مطوع تماما للطرب الشرقى ، ويردد الأوركسترا نفس الميلودى الذى يتوقف الإيقاع بنهاينه
المقطع الرابع عودة للحوار غير الموقع بين وهنا بين آلة الكمان والأوركسترا على مقام راحة الأرواح يبدأ بدخول أوركسترالى مفاجئ بحركتين من جواب الكورد إلى رابعة المقام المشتركة بينهما يتبعه تقسيم تنازلى حر منفرد على الكمان فى عدة جمل متعاقبة يتابعها الأوركسترا بتكرار حركتى الدخول القوى بعد كل جملة حتى يستقر اللحن على أساس المقام ، ثم يؤكد المقام بتركيز قصير من الأوركسترا على الأساس ثم بتقسيم خفيف على القانون تمهيدا لبدء الغناء دون مصاحبة إيقاعية
جاء الانتهاء بالمقطع الأخير على مقام راحة الأرواح الشرقى مفاجأة غير متوقعة بعد تتابعات على ثلاثة مقامات لا تحتوى على نغمات ربع التون الشرقية ، ولم تكن محاولة للتطعيم أو الترصيع بل خروج تام من الجو الرومانسى إلى نغمة أساسية مستقلة لها جذور عميقة فى التراث الموسيقى واتصال قوى بالفولكلور الشعبى  وهى التى ارتكز عليها الغناء وأصبحت مقام الأغنية الرئيسى ، وقد يثير هذا التحول المفاجئ اندهاش السامع فإما أن يقبله وإما أن يظل على اندهاشه ، وفى الحالتين الفائز هو التعبير ، فكلمة فات المعاد لا تعبر عن بداية شيء ما بقدر ما تعبر عن انتهائه ، والكلمة مليئة بشعور الندم على ضياع الجميل والساحر والأسف للواقع والآتى ، فلا فائدة من التحليق فى جو الأحلام ولنقبل الحياة كما هى الآن 
التجديد والابتكار:
تنسج المقاطع الأربعة جوا تعبيريا مليئا بالشجن والعاطفة ، ورغم ارتكاز الأداء على آلات غربية كالجيتار والساكسفون إلا أن اللحن أضفى الطابع الشرقى على أداء هذه الآلات التى لا يكاد يشعر السامع أنها آلات غريبة عن الموسيقى العربية ، خاصة آلة الساكسفون التى فاجأت الجمهور بالظهور فى أغنية لفنانة محافظة كأم كلثوم ، بهذا المقطع الساكسفونى جاء بليغ حمدى بروح جديدة إلى الموسيقى العربية
بعدها انتشر استخدام الساكسفون وزادت شعبيته لدى الأسماع العربية وأفردت له تسجيلات لأغنيات عربية كثيرة أعيد أداؤها باستخدام هذه الآلة وكبديل أحيانا لصوت المطرب ، ولم يمنع رواجه كآلة شائعة فى موسيقى الجاز البعيدة تماما عن الميلودية أداء الساكسفون الشرقى للميلودية المطربة بل إن فى مقطع فات الميعاد تكاد الآلة تنطق من فرط الإحساس والطرب ، ولا شك فى أن دور العازف هنا أساسى فى التعبير الموسيقى إذ أن الموسيقى وحدها قد تعزف بأكثر من طريقة ، والآلات النحاسية عموما من أقوى الأصوات فى الأوركسترا وأوضحها وتحتاج إلى عازف على قدر كبير من المهارة فى التحكم بالآلة وإخضاعها لإحساسه الشخصى باللحن ، وربما كان بليغ حمدى من أوائل من قدم هذه الفكرة لكنها كانت قد بدأت لتوها فى الغرب وسرعان ما سمعنا تسجيلات خاصة بالساكسفون يعزفها فاستو بيبتى على نغمات من الأغانى الغربية التى تم اختيارها على أساس تمتعها بميلودية سائدة وسط آلاف أغانى البوب ، ونجح بيبتى فى تقديم هذا القالب من إعادة التسجيل وانتشرت تسجيلاته فى الشرق والغرب بنجاح كبير فى السبعينات
التقييـــم العـــام:
وتعد مقدمة فات الميعاد من أغنى ما قدم بليغ حمدى كموسيقى ، ورغم أنه قد قدم العديد من المقدمات للأغانى إلا أنها لم ترق إلى مستوى هذه المقدمة فنيا وجماليا ، وقد امتازت بترابط أجزائها وانسجامها رغم التباعد النسبى بين مقاماتها واختيار طرق جديدة ذكية لاشتقاقها من بعضها ، وساهم ذلك فى تولد شعور بوحدة اللحن
نقطــة تحــول:
ومن الجدير بالملاحظة اندماج بليغ حمدى بدءا من هذا اللحن فى منافسة قوية مع محمد عبد الوهاب فى التلحين لأم كلثوم ، إذ أن ألحان بليغ لأم كلثوم بعد ذلك اعتمدت نفس أسلوب عبد الوهاب فى استخدام الآلات الجديدة والإكثار من الإيقاعات الراقصة وتعدد المقامات وغيرها من عناصر الإبهار الموسيقى التى برع فى تقديمها عبد الوهاب ، ولولا تلك المنافسة لربما ظلت ألحان بليغ لأم كلثوم فى الدائرة السنباطية التقليدية ، والغريب أن محمد عبد الوهاب الملحن الأقدم والأكبر سنا هو الذى أشعل تلك المنافسة ، وتمثلت عناصر وأدوات هذه المنافسة فى عدة أشكال منها:
·       المقدمات الموسيقية المركبة
·       الآلات الجديدة: الجيتار ، الساكسفون ، الأورج ، الأكورديون
·       الإيقاعات الجديدة والمشتقة
·       الضبط الدقيق لأداء الأوركسترا
·       إحكام الجمل الغنائية
·       ابتكار جمل موسيقية جديدة
·       استخدام أكثر للحوار الموسيقى كبديل للجمل المسترسلة
ورغم أن بليغ حمدى قد قدم نفسه منذ احترافه الفن كملحن وليس صانع موسيقى فإنه فى هذه التجربة الفريدة قد دخل إلى عالم التأليف الموسيقى وهو الفنان الذى لم نسمع له مقطوعة موسيقية مستقلة ، وقد ظل ملحنا بالدرجة الأولى للنهاية ولم تخرج أعماله الموسيقية عن نطاق مقدمات الأغانى أو موسيقى الوصلات ، ورغم أنه قام بتأليف الموسيقى التصويرية لبعض الأفلام والمسلسلات إلا أنها لم تتضمن ما يمكن الإشارة إليه كعمل موسيقى مستقل
نقـــد مقـــارن:
وقد بلغ من تعلق بليغ حمدى بأسلوب عبد الوهاب واقتفاء أثره ظهور عدة بصمات وهابية فى هذه المقدمة ، وهى ليست اسثناء فقد استمر تعلق بليغ به فى أغان أخرى فى موسيقى المقدمات بالذات ، ولكن يهمنا هنا ذكر ما ظهر منها فى فات المعاد:
1- اللحـــــــن:
أنه جاء بجملة ميلودية لمدة 5 ثوان فى نهاية مقطع الساكسفون على مقام الكورد تكررت بالأوركسترا ثلاث مرات متعاقبة عند ختام المقطع أى لمدة 15 ثانية هى نسخة طبق الأصل وبنفس التكرار من نهاية مقدمة أغنية أمل حياتى التى لحنها عبد الوهاب لأم كلثوم قبلها بعامين فى 1965 واشتهرت كثيرا لرقتها المتناهية ، وعلق الجمهور المتابع بطبيعة الحال لكن لم يعلق أى منهما على تلك الجملة ، لا عبد الوهاب ولا بليغ 
2- التوزيـــع:
استخدام نفس التوزيع الألى للجملة السابقة أى على آلة منفردة يتم تكرار أدائها  بالأوركسترا ، الساكسفون فى فات المعاد والأكورديون فى أمل حياتى
3- الإيقـــاع:
جاء الإيقاع الوحيد فى المقدمة فى مقطع الساكسفون على نفس إيقاع مقدمة أغنية أمل حياتى أيضا ، وكان إيقاعا جديدا وقتها ، دلالة على أن ابتكار هذا الإيقاع يعود أصلا لمحمد عبد الوهاب
4- الانتقال المقامى:
التحول بين المقطع الثالث والرابع من مقام الكورد إلى راست النوا بالتوقف عن الإيقاع وإدخال سولو الكمان الحر هو نفس فكرة وأسلوب محمد عبد الوهاب فى مقدمة أمل حياتى أيضا مع اختلاف نهاية السولو حيث استقر فى فات المعاد على راحة الأرواح ، وهو انتقال غير متوقع ، بينما استقر فى أمل حياتى على البياتى ، المقام الأقرب إلى الكورد ، والمستمع لمقدمة أمل حياتى يلاحظ سيطرة مقام الكورد على جو المقدمة بالكامل كمقام أساسى لا يتم الانتقال بعيدا عنه إلا فى تلك الجملة الاعتراضية فى سولو الكمان ، والعودة فى النهاية إلى مقام الكورد الذى هو مقام الغناء الرئيسى وبذلك تكون وحدة النسيج الفنى عند عبد الوهاب أوضح وأثبت منها فى فات المعاد التى تنقلت مقدمتها بين أربعة مقامات مختلفة وانتهت بمقام غير الذى بدأت به وبدأ الغناء فى مقام مختلف تماما عن جو المقدمة ، تحليل موسيقى د.أسامة عفيفى فات الميعاد موسيقى بليغ حمدى
بينما اشتعلت بين عبد الوهاب وبليغ فى تلحين أغانى أم كلثوم ، وهى قمة فنية عليا ورائدة ، لحق السنباطى بقطار المنافسة بعد قمة الأطلال التقليدية عام 1966 فى لحن أقبل الليل لأم كلثوم عام 1969 من كلمات أحمد رامى وقدم فيها ما استطاع من تجديد ، وكذلك من أجل عينيك عام 1972 ، لكن الجمهور المتابع بشغف شديد خاب أمله عندما لم يلحق محمد الموجى بهذا القطار السريع ، فقد لحن لها فى قمة تلك المنافسات أغنية جاءت بعد انتظار طويل للموجى على محطة أم كلثوم لم نسمع فيها أى شيء جديد ، لا موسيقى ولا آلات ولا إيقاعات ، وكانت أغنيته إسأل روحك عام 1969 شرقية تقليدية بعيدة تماما عن الابتكار والتجريب ، وهو شيئ مستغرب على فنان عرف بتجريبيته الجريئة خاصة فى ألحانه لعبد الحليم حافظ  ، ورغم أنه قدم خلال السبعينات موسيقى اتسمت بالتجديد والابتكار فى أغان حديثة كرسالة من تحت الماء وقارئة الفنجان ، ولم تسنح الفرصة للموجى بعدها للتلحين لأم كلثوم وربما كان يجب عليه استغلال تلك الفرصة فى استعراض موهبته فهى لم تتكرر
كذلك كان تكوين سيد مكاوى الفنى ، آخر من لحن لأم كلثوم ، عقبة طبيعية فى طريق تقديم أى جديد على هذه القمة فجاء لحنه الوحيد لها يا مسهرنى عام 1972 مفرطا فى التقليدية وبذلك انحصرت المنافسة الحقيقية فى الستينات والسبعينات بين محمد عبد الوهاب ورياض السنباطى وبليغ حمدى

الأربعاء، 3 أكتوبر 2012

أسرار ستراديفاريوس: "أهم و أعظم من صنع الكمان"

كتبه: بريان دوننغ و ترجمه: فاضل التركي
المترجِم: حديث الآلات واختيارها طالما كان محل اهتمام الموسيقيين وربما كلفهم ذلك كثيراً من المال والوقت واجهاد الذهن. رأيت من الواجب ترجمة هذه المقالة القصيرة للموسيقيين العرب علّها توضح بعض اللبس وبعض ما تصنعه مكنة الإعلام والثقافة الشائعة
أحببت إهداء الترجمة للاستاذ الذي نجلّ: الفنان أحمد الجوادي

null
النص المترجم: دفعت الآلة في يديّ، رغم أني أمسكت بيديّ لتفادي الآلة. قلت: "لا، لا تقربي هذا الشئ مني أبداً، سينكسر!". لكن عازفة الكمان كانت مُصرّة. ولقد كان الأمر إما أن أُمسك بالآلة أو أن تسقطَ أرضاً. أمسكت الآلة، ولقد كانت في الحقيقة أول آلة كمان أمسكت بها قطُّ. لقد أدهشتني خفة وزنها، وشدة صلابتها. كيف حُنيت بهذه الأناقة وركّبّت وصمّغت وشكّلت صندوقاً بدا من كل جانب كأنه منكسر لا محالة وكأني سأهشمه بأدنى عصرة من يدي. ولكن لم أكن لأستطيع فعل ذلك. إن الآلة لمثال حيّ على ميكانيكا الشدّ، و قوتها جاءت من تقوّسها المشدود الذي يقابل أوتارها المشدودة بشدة. إنها معركة فيزيائية أبدية لطرفين متورطين معاً كل منهما في راحة! أكثر ما أتذكره هو النظر من خلال فتحة الإف F وأنا أقرأ التوقيع الأصلي وهو محبور بأناقة بيد الصانع ذاته من داخل سطح ظهر الآلة وهو منظرٌ حُفِرَ في ذاكرتي راسخاً كما حُفِرَ على الآلة ذاتها: الاستراديفاري. أنطونيو ستراديفاري هو صانع آلات وترية إيطالي عاش بين 1644 و 1737م. هو يعتبر أعظم صانع كمنجات من أولئك الصنّاع الذين آلاتهم هي أرقى آلاتٍ في العالم. 
ولقد صنع آلات الشيللو وبضع آلات من الفيولينة و آلات غيتار قليلة و آلات قيثارة و آلات مندولين. كل الآلات الباقية مسماةٌ و يعزِفُ عليها أمهر العازفين مثل الكمانيّ اسحاق بيرلمان و عازف التشيلو "يو يو ما". إن هؤلاء الفنانين محظوظون باقتناء آلاتهم التي تسمى عادة "ستراد" وتكلف ملايين الدولارات وغالبها تمتلكها مؤسسات أو راعون أثرياء. تلك التي دنّستُها بيدي كانت تستخدمها عازفة في الفرقة السمفونية الباسيفيكية، وكانت مستعارة من راعٍ ثري. هناك ما يفوق الألف آلة ستراد كانت صنعت، لم يبق منها إلا قرابة 650 آلة، منها 500 آلة كمان. 
و العصر الذهبي لسترادي، العصر الذي صنع فيه أفضل آلاته هو الفترة بين 1700 و 1720م. واستراديفاري – والذي يطلق عليه في الغالب اسمه اللاتيني الصيغة "ستراديفاريوس"، كان طوّرَ مهارتِه كمتدرب عند "نيكولوس أماتي" وهو أحد أفراد سلالة من الصنّاع الذين تعد آلاتهم أيضاً من أرقى الآلات في العالم. لكن، ليس هناك من كمنجات لا تلك التي صنعتْها عائلة أماتي ولا "دا سالو" ولا "غارنيري" ولا "برغونزي" ولا غيرهم من الأسماء الكبرى، كان لها سمعة آلات ستراديفاريوس. و حتى اليوم، فإن الباحثين لازالوا يعرضون هذه الآلات العظيمة على أجهزة الأشعة المقطعية والتحليل الكيميائي و على المحاكاة في الحواسيب العملاقة، محاولين الكشف عن السر الخدّاع. ما الذي جعل آلاته رائعة؟ هل كان سببه الطلاء أم الصمغ أم التصميم أم الخشب ذاته أم الطريقة التي قطع بها الخشب و جففه أو و عالجه؟ لا أحد ممن عانى وقاسى استطاع أن يقلّد أي سترادي باستخدام مواد أصلية ،ولا مهارة في الصنعة استطاعت حتى الآن أن تعيد صناعة هذه هذه الرّنة الفريدة والصوت الكامل الذي لا ينسب إلا لآلات هذا الاستاذ ذاته وحسب؛ أو على الأقل، هذا ما تقوله لنا الثقافة الشائعة. 
واليوم، لن يقوم موقع سكبتويد بدراسة هذا السؤال، ولكن بدراسة الافتراض الذي يقوم عليه وهو هل أن صوت سترادي حقاً يستحق كل هذه السمعة؟ إن الحكم على جودة صوت الكمان ليس بغير الموضوعي كما هو الحال عند تذوق طعام. إن التذوق مسألة شخصية. ربما كان هو الحال في عالم الكمنجات، لكن هناك معايير كمية يمكن قياسها. يمكن قياس جودة الصوت بالنظر في تردد طيف الصوت بكل موضوعية. وليس من المستحيل أن يكون هناك فترة في التاريخ كانت فيها الكمنجات أفضل منها الآن بحيث لايمكن إعادة صناعة مثلها و أحد الأسباب التي تذكر في هذا الشأن يتعلق بالمناخ. في نهاية العصر الجليدي الصغير، وهو تقريباً ما يغطي الفترة بين 1550 و 1850م، كان هناك وقت مررنا فيها بمرحلة كان فيها نشاط البقع الشمسية ضئيلاً بدرجة غير عادية ويطلق عليها اسم "موندر مينيمام" وهي الفترة بين 1645 و م1715. كانت الشتاءات في أوروبا في هذه الفترة قارسة جداً ولا يعرف إن كانت ظاهرة "موندر مينيمام" قد زادت من ذلك أم لا، وهذا محل جدل. ولكن بغض النظر عن ذلك، فإن هذه الفترة تصادف فترة نمو الأشجار التي استخدمها أنطونيو ستراديفاري في آلاته التي صنعها في عصره الذهبي، ويغطي العصر الجليدي باتساعه تقريباً كل المدة التي وجد فيها أعظم الصانعون الإيطاليون. تنمو الأشجار ببطئ في الشتاء وتكون الحلقات أقرب والخشب أكثر كثافة. ولو حاولتَ صناعة كمانٍ جديدٍ من نفس الخشب الذي استخدمه ستراديفاريوس، فإن أخشاب اليوم ستكون أقل كثافة وسوف نرى اختلافاً في التأدية. 
و في ضوء هذه النظرية، فإن فرانسيس شوارزي، الذي يعمل في مختبرات سويسرا الفيدرالية للمواد والعلوم والتقنية، أعلن في العام 2012م أنه استطاع أن يطوّر معالجة طفيلية للخشب تزيد من قسوته وتجعله قريباً من أخشاب العصر الجليدي. في عام 2009، قدم عرضاً غير رسمي كان قد عزف فيه أحد العازفين على كمان ستراد صنع عام 1711م وكمان آخر صنع من خشب معالج طفيلياً، ولقد أخبر أن المستمعين و شريحة من الخبراء ظنوا أن كمانه كان كمان ستراد. وهنا، من الأفضل أن نرجع إلى الخلف و لا نسأل، ما الذي يجعل كمنجات ستراديفارس بهذا التميز، بل نسأل أولاً إن كانت بالفعل مميزة. لقد اُستُنفِدَ كثيرٌ من الوقت والجهد لمحاولة تعلم أسرار ستراديفاريوس، ولكن في نظري، لم يُستَنفدْ جهد كاف لنعرف في البداية إن كان هناك أي فارق في الأساس يمكن أن يكون موجوداً. عندما تكون لديك آلات تُكلفُ ملايين الدولارات، لا يكون عادةً عندك فرصة لاختبار مجموعة منها وجهاً لوجه. ولكن هذا ما قام به فريق من الباحثين في العام 2010م في مسابقة الكمان العالمية الثامنة في إنيديانابولس. لقد تم اقناع ستة من مالكي كمنجات غير عادية للمشاركة بها في أكبر وأدق اختبار استطاع الباحثون أن ينظموه. 
 لقد ضمّتْ الكمنجات الستة، ثلاثة من الكمنجات الإيطالية الكلاسيكية القديمة أحدها لغارنيري من فترة 1740م و زوج من ستراد من الفترة بين 1700 إلى 1715م ولم يعلن عن تواريخها المحددة لكي تجعل هوية هاتين الآلتين مجهولتين. إن القيمة الإجمالية للآلات كانت حوالي عشرة ملايين دولار. ولقد كان في الآلات أيضاً آلات عالية الجودة أحدها كان اُنتُهيَ من صناعتها خلال أيام قليلة من يوم الاختبار وكانت القيمة الإجمالية تقارب المئة ألف دولار. أُحضِر واحدٌ وعشرون عازفاً لكي يشاركوا في الدراسة ولقد أُختِيروا من المتسابقين والمحكّمين ومن فرقة إنديانابوليس السمفونية. كلهم كانوا مهرةً و عازفون خبراء يمتلكون كمنجات خاصة – لم يدخل أي منها في الدراسة – تتراوح قيمتها بين ألف وثمانمائة دولار إلى عشرة مليون دولار. والشئ الوحيد الذي عرفه المشاركون هو أنهم سيعزفون على "عدد من الكمنجات الراقية بينها على الأقل كمنجة لستراديفاري". وإحدى ميزات هذه الدراسة هو أنها كانت معمّاة الطرفين؛ فلا المشاركون ولا الباحثون عرفوا أي آلة كانت تُعزفُ في أي وقت من الأوقات. 
ولكي يكون ذلك، كان الاختبار يجرى في جناح فندق خافت الإضاءة وكان الجميع يلبس نظارة لحامٍ معدّلةٍ تحدُّ من قدرتهم على الرؤية الواضحة. ولقد ضُمّخت كل كمنجة بعطر على مستراح اللحية لكي تحجبَ رائحتها المميزة واستخدم العازفون أقواسهم الخاصة. ولقد كان كل شئ خُلِطً عليهم جيّداً حتى أن الباحثين الذين سلموا كل كمنجة إلى كل عازف لم يعرفوا أي كمنجة كانت تلك الكمنجة. الموسيقيون الذين شارك كل منهم على حدة، كان عليهم أن يقوموا بعدد من المهام. كل منهم كان عليه أن يجرب عشرة أزواج من الآلات، يعزف كل آلة لدقيقة واحدة و لكل زوج من الآلات، يحدد أي واحدة منهما يفضل. 
في اختبار آخر، كانوا قد منحوا فرصاً متساوية لتجريب الآلات الست، لعشرين دقيقة و طُلبَ منهم أن يحددوا أفضلها وأسوأها حسب خمس معايير: لون الصوت و القابلية للعزف و قابلية الاستجابة و امتداد الصوت وأي آلة منها كانوا يودون لو أخذوها معهم إلى بيوتهم لأنفسهم. إذن، كيف كانت النتائج؟ لقد كانت في الحقيقة مدهشة. في المقارنة وجهاً لوجه، كانت خمسة من هذه الكمنجات تم تفضيلها بالتساوي تقريباً. ولكن الكمنجة السادسة كانت بارزة حسب النتائج لا أحد فضّلها. لقد كانت أقلها تفضيلاً. ماذا كانت هويتها؟ لقد كانت كمنجة ستراديفاريوس في فترة 1700م تلك الكمنجة ذات التاريخ اللامع؟ حتى الأزواج من الكمنجات التي لم تضم ستراديفاريوس 1700 كانت انقسمت في التفضيل إلى نسبة 50 و 50 بالمائة، ولكن عندما ندخل معها ستراد 1700 فإن نصيبها الإقصاء بنسبة 80%. ورغم ذلك، لم يعرف هذه الحقيقة أي من المشاركين، إن كل زوج ضم كمنجة قديمة وكمنجة جديدة. كل الكمنجات الجديدة الثلاث قورنت وجها لوجه مع الكمنجات الإيطالية الكلاسيكية القديمة. 
في الاختبار الثاني، الذي اختار فيه المشاركون الآلة المفضلة عندهم والأقل تفضيلاً من كل الست كمنجات حسب المعايير الخمسة ، فإن النتائج كانت كذلك غير متوقعة. لقد حققت أربع كمنجات نقاطاً متساوية، ولكن ها هي ستراد 1700، أصبحت مرة أخرى الخاسر بكل وضوح. وكان هناك فائز واضح أيضاً ولم يكن إيطاليا كلاسيكيا، لكنه كان كمنجة جديدة ولقد كانت اختيرت مفضلة في كل معيار أكثر من أي آلة أخرى. ومن الكمنجات القديمة، كانت كمنجة غارنيري قد فاقت في النقاط كمنجتي ستراديفاريوس. و لم يكتشف أي تحيّز للموسيقيين لتفضيل آلات تقارب في العمر أو الصناعة آلاتهم الشخصية. 
سبعة عشر من واحد وعشرين حاولوا تخمين صناعة الآلات التي كانت لديهم أكثر تفضيلاً، هل كانت قديمة أم جديدة؟ سبعة قالوا أنهم لا يستطيعون أن يحددوا ذلك أبداً وسبعة أخطأوا التخمين و ثلاثة أصابوا. في هذه الدراسة كان 14% فقط من المحترفين وعازفي الكمان الخبراء الذين لديهم آلات شخصية يملكونها و التي تصل لسعر عشرة ملايين دولار، استطاعوا أن يصيبوا في كون الآلات التي أحبوها جديدة أو كانت في عمر الثلاثمائة عام. 
هذه دراسة واحدة ولا نستطيع أن نعتمد عليها ككلمة أخيرة، لكن نتائجها كانت واضحة جدا،ً و الدراسات القليلة المشابهة لم تكن ذات قيمة يمكن مقارنتها بها. وما أرتنا هذه التجربة هي أنه سواء كان الصمغ أم الطلاء أم الخشب الخاص استخدمت في ورشة انطونيو ستراديفاري أم لا، فإنه لم يكن على الأغلب أفضل مما صنعه عظام الصانعين الآخرين عبر القرون. إذن، ما هو سر ستراديفاريوس؟ إن السر هو أنه لا يوجد هناك أي سرٍّ. إن ستراد آلة راقية تقارن بالآلات الأخرى الراقية. الادعاء بأن هناك تفوّقاً لا يمكن شرحه وتوضيحه، هذا الادعاء لا يمكن دعمه بالحقائق. 
إذا كان هناك فارق موجود، فإنه فارق لم تستطع أن تهتدي إليه تلك الدراسات القليلة العالية المستوى حتى الآن. لا شك في أن ستراديفاريوس هو أكبر اسم في تاريخ الآلات الوترية ولا شك أن هذه الآلات ستبقى في قمة المزادات العلنية في المستقبل الظاهر. إن جزء ضئيلاً من سعر هذه الآلات يغطي جودتها وصوتها؛ ولكن النسبة الكبرى من السعر هي السمعة والأهمية التاريخية والمكانة الاجتماعية. وهذا شئ لا يمكن لأي كمّ من الأشعّات المقطعية ولا التحاليل الكيميائية أن تعيد خلقه.

::. ترجمة: فاضل التركي
::. الترجمة طرأ عليها تعديل طفيف تلطيفاً لقراء العربية  النص الأصلي مكتوباً ومسموعاً بصوت كاتبه.