|
سيد درويش |
يتم نشيد بلادي بلادي الشهير عامه المائة هذا العام 2019 الذي يوافق مرور 100 عام على ثورة 1919 في مصر، وتأتي هذه المناسبة والنشيد على قمة الأعمال الموسيقية العربية في القرن العشرين. يصاحب عزف النشيد، الذي لحنه سيد درويش وكتب كلماته المستوحاة من كلمات للزعيم الوطني مصطفى كامل، والذي أصبحت موسيقاه السلام الوطني المصري في سبعينات القرن العشرين تحية العلم كل صباح في مدارس مصر وفي جميع المناسبات القومية المصرية بدءا من من المناسبات الرسمية حتى مباريات كرة القدم
كان أول ظهور لنشيد بلادي خلال ثورة 1919 علامة فارقة بين الموسيقى قبله والموسيقى بعده .. باختصار كان رمزا حقيقيا للتحول الفني الكبير من فن السلطة إلى فن الشعب، ومن الحالة المزاجية إلى الأداة التعبيرية والقوة الشعبية
لم يكن نشيد بلادي الوحيد الذي وضع موسيقاه النابغة سيد درويش، فقد أبدع العديد من الأناشيد الوطنية، وكانت كلها تشير إلى بداية عصر جديد يجمع الشعب في كلمة واحدة تستند إلى الروح القومية والمستمدة من حقائق التاريخ الممتد والجغرافيا العبقرية التي استطاعت توحيد شعب مصر على مدار الزمن رغم فترات الوهن وأطماع القريبين والبعيدين
عبقرية نشيد بلادي
وكما قلنا في مناسبات سابقة أن عبقرية النشيد تكمن في لحنه وليس في الكلمات، كما هو الحال في جميع أعمال سيد درويش، وهناك أدلة قوية تشير إلى هذه الحقيقة
1. ينتمي اللحن إلى سلسلة أناشيد قومية وضعها سيد درويش كانت أول أناشيد قومية تعرفها مصر والمنطقة العربية، فلم يكن قالب النشيد معروفا قبل ذلك
2. يثير اللحن نفس الشعور العام في كل مرة سواء بمصاحبة الكلمات أو بدونها كما في السلام الوطني
3. مقارنة بما سارت عليه الألحان قبل سيد درويش يمكننا تتبع الاختلاف الكبير في الأسلوب، وكما ذكرنا قبل ذلك لو قدر لنفس الكلمات أن يقوم بتلحينها ملحن آخر في ذلك الوقت لما خرج اللحن عن الطقاطيق أو الموشحات أو الأدوار التي كان يجيد تلحينها أساطين ذلك العصر المنتمون جميعا إلى المدرسة التنغيمية القديمة ذات القواعد التقليدية التي رسخت الطرب والمزاج بعكس المدرسة التعبيرية المنطلقة التي أسسها سيد درويش. وفي هذا أيضا نشير إلى أن ما عرف بألحان "الطوائف" مثل "الشيالين و"السياس" و"الأروام" وغيرها لم تشتهر بكلماتها، رغم تقدميتها، بدليل أن ملحنا كبيرا مثل كامل الخلعي له ألحان في أوبريتات وضعت على كلمات مشابهة، بل بنفس العناوين أحيانا، ولكن أعمال سيد درويش هي التي صعدت وظلت حتى الآن على القمة لأن الألحان اختلفت
4. حينما قررت القيادة المصرية اعتماد نشيد بلادي سلاما وطنيا لم تستدع النشيد من غياهب الزمن، بل كان متداولا وبقوة، ويمكننا القول أن قرار القيادة كان استجابة لإرادة شعبية هي التي حفظت النشيد وأعلت مكانته.
5. عندما كلف الرئيس أنور السادات محمد عبد الوهاب بإعداد لحن بلادي بلادي سلام مصر الوطني لم يتطرق أي منهما إلى فكرة وضع لحن جديد بدلا منه، قبل محمد عبد الوهاب المهمة بكل تواضع ونبل، اعترافا منه بقيمة اللحن وشهادة بفضل من وضعه واحتراما لإرادة شعبية قدمته على غيره، وهو موسيقار الأجيال الذي كرمه السادات بكافة الوسائل حتى منحه رتبة لواء بالجيش المصري
6. رغم ظهور أناشيد قومية كثيرة لاحقا على أيدي ملحنين مصريين كبار، تفوق نشيد بلادي عليها جميعا والسبب في ذلك يعود إلى ذلك التكوين الفني البسيط الذي استخدمه سيد درويش. فمعظم الأناشيد الأخرى كانت تحتاج إلى منشدين محترفين وفرق موسيقية كبيرة بينما باستطاعة أي فرد من الشعب ترديد نشيد بلادي بسهولة ودون أي مصاحبة موسيقية
7. هناك بعض محاولات لنسبة كلمات النشيد إلى مؤلف غير سيد درويش، ورغم أنه كما أوضحنا أن نسبة كلمات النشيد إلى شخص أو غيره لا تغير من الأمر شيئا لأن عبقرية النشيد في لحنه وليس في نظمه، فلا بأس من عرض ما أوردناه في مقال سابق عن الجدل الذي أثير حول كلمات النشيد في معرض حديثنا عن أول ملحن لأم كلثوم، أحمد صبري النجريدي، وننقل هنا ما جاء في المقال كما هو
"ظهور النجريدي في فترة عصيبة من تاريخ مصر
يرجح أن الذي ظلم النجريدي ليس ألحانه بأي حال، ولا أم كلثوم كما ذكرنا، ولكن أغنية واحدة من كل هذا الكم والفن ظلمتهما معا هي "الخلاعة والدلاعة مذهبي". فقد أساء كلاهما اختيار العنوان والموضوع وكان هذا كفيلا بوسم المرحلة كلها بخاتم الخلاعة و"قلة الحياء" إن جاز التعبير. أغنية أساءت لتلك المرحلة رغب الاثنان في إسدال الستار عليها نهائيا لأنهما لم يتداركا الأمر في وقته قبل أن يرفضها المجتمع بل ويظل يحكي عنها أجيالا حتى الآن كمثال لهبوط الكلمة والمضمون في ذلك الزمن القاسي الذي لم تسلم منه مطربة أسطورية كأم كلثوم ولا ملحن نابغة مثل النجريدي.
كذلك لم يسلم منه فنانون كبار نعتبرهم من الرواد مثل زكريا أحمد في "ارخي الستارة" ومحمد عبد الوهاب في "فيك عشرة كوتشينة"، ومحمد القصبجي في "بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة". الوحيد الذي أفلت من هذا التيار الجارف كان رياض السنباطي، ليس مباشرة بسبب شخصيته الانطوائية المحافظة بل بسبب أنه لم يلحق بذلك الزمن أصلا ولم يتواجد فيه على الساحة.
اعتذر عبد الوهاب لاحقا عن سابقة أعماله الوحيدة بسلسلة هائلة من الأعمال الوطنية الخالدة، واعتذرت أم كلثوم بسلسلة دينية رفيعة المستوى من أشعار شوقي وألحان السنباطي، واعتذر القصبجي بما قدمه من أعمال راقية، واعتذر زكريا أحمد بلسانه في حديث للإذاعة المصرية قائلا إنها كانت فترة سوداء في تاريخه وتاريخ الفن وأنه اضطر اضطرارا إلى قبول أعمال دون المستوى اللائق، أما منيرة المهدية وعبد اللطيف البنا فقد طواهما الزمن ولم يعد يسمعهما أحد
قطعا ليست صدفة أن تكون جميع هذا الأغاني الهابطة لنفس المؤلف رائد هذا التيار ومحاميه الأول في مصر محمد يونس القاضي. رائده لأنه صاحب أكبر وأشهر باقة من هذا النوع من الأغاني، ومحاميه لأنه دافع عنه بدعوى أنه أكثر حشمة من أغاني الخمسينات! وعين المهزلة أنه تم تعيينه رقيبا على المصنفات الفنية يمرر ما يشاء ويرفض ما يشاء رغم كونه رائد كتابة الأغاني المبتذلة. كيف انتشر ووصل إلى كل هؤلاء النجوم في وقت واحد؟ وكأنه يعمل كالفيروس فيشغلهم جميعا لحسابه؟
هنا نصل إلى قلب الحقيقة وهي أن هذا الموقف ربما لم يكن بمحض إرادة الرجل الذي يمكن أن يكون قد ناله بعض الظلم في ذلك، ولو أنه ارتضى أن يحول موهبته في الكتابة إلى أداة هدم للمجتمع بدلا من أن تكون أداة نقد أو ارتقاء، وإنما كانت إرادة سياسية من إدارة الاحتلال البريطاني والحكام الموالين لها في ذلك الوقت تضغط على الجميع، وكان ضمن أسلحتها إغراءات شركات الاسطوانات وغيرها
تلك هي الفترة التي بدأ فيها طمس فيه أعمال المجدد والناقد الوطني سيد درويش عمدا عقب وفاته المفاجئة عام 1923، وبعد أن أغلق مسرحه بالقوة خلال حياته وأثناء عرض رواياته كما شهدناه في فيلم سيد درويش الذي كتب قصته محمد مصطفى سامي. في نفس السياق اقترح ضابط الاحتلال على سيد درويش مهددا إياه عندما اتهمه بإثارة الجماهير بتلحينه لنشيد "قوم يا مصري" من كلمات بديع خيري، أن يقوم بتلحين أغاني التسالي والفرفشة بدلا من الأغاني الوطنية حرصا على حياته ومستقبله. وكما جاء في نفس السيناريو رفض صاحب شركة الاسطوانات الخواجة "ميشيان" مطلقا تسجيل أغاني سيد درويش لاعتراضه على الكلمات وطلب منه نفس طلب ضابط الاحتلال، لكن سيد درويش رمز الشعب وروح ثورته رفض رفضا قاطعا هذه الضغوط والإغراءات
وهي نفس القوى التي عينت مصطفى بك رضا مديرا لمعهد الموسيقى ثم مديرا لبرامج الإذاعة لاحقا واشتكى كل الفنانين في مصر من سوء اختياراته وسوء إدارته ومعاملته، وهو الذي أخذ على عاتقه مهمة إقصاء فن سيد درويش من الساحة وربما دفنه نهائيا
وهو نفس الزمن أيضا الذي انتشرت فيه الحانات ومحلات الخمور ونوادي القمار بأمر وتسهيل مباشر من سلطات الاحتلال بعد هدوء ثورة 1919 ووفاة سيد درويش
وهي فترة من أحلك أيام مصر شخص أمراضها وسجلها الأديب نجيب محفوظ في روايته الشهيرة "القاهرة 30"، يقصد 1930، أي العام الذي نضج فيه المخطط الخبيث واستوى وقبض على مفاصل الحياة الاجتماعية في مصر، بنشر الابتذال والتفسخ والرذيلة حتى تبدو أشياء عادية في المجتمع دون حرج، بادئا من صف النجوم إلى صفوف الجماهير، بقصد تغييب الضمير الشخصي والجمعي لمنع إعادة إنتاج ثورة 1919 وتحدياتها بأي شكل (يشير عام 1930 أيضا إلى إسقاط دستور 1923 الذي ارتضاه الشعب وكان من نتائج ثورة 1919)
وفي عام 1932 أقيم مؤتمر الموسيقى العربية الأول تحت رعاية الملك فؤاد وحضره مئات من الموسيقيين المصريين والعرب والأجانب، وتم تسجيل عشرات الأعمال ومنح محمد عبد الوهاب لقب "مطرب الملوك والأمراء". وانفض المؤتمر دون أي ذكر لسيد درويش رائد النهضة الفنية وصاحب الفضل على الجميع، والذي ترتفع منزلته في الموسيقى العربية إلى منزلة بيتهوفن في الموسيقى الغربية
ومع شديد الأسف يوجد اليوم من يدافع عن أشهر مؤلف للأغاني المبتذلة في تاريخ مصر، محمد يونس القاضي، ويحاول تكريمه بادعاء أنه صاحب نشيد بلادي، النشيد الوطني المصري، وعشرات نصوص أخرى من ألحان سيد درويش، وهذه في الحقيقة أكذوبة كبرى لعدة أسباب
· أن الرجل عاش بعد ظهور النشيد عام 1919 مدة 50 سنة حتى وفاته عام 1969 لم ينطق خلالها بكلمة واحدة ليقول أنه صاحب النشيد. وجميع هذه الدعاوى بدأت في الظهور بعد وفاته بعشر سنوات على الأقل عن طريق أناس غيره بطريق القيل والقال وليس بأدنى حد من التوثيق، وتحديدا بعد قرار الرئيس السادات باعتماد نشيد بلادي السلام الوطني المصري وإعلان اتفاقية السلام مع إسرائيل
· أن النشيد ألفه ولحنه سيد درويش وهو ليس النص الوحيد الذي ألفه، فهو مؤلف جميع أدواره العشرة وغيرها كثير. وكلمات النشيد الأساسية تعود أصلا إلى الزعيم مصطفى كامل وهو القائل بالنص "بلادي بلادي .. لك حبي وفؤادي"، في إحدى خطبه. وأهم من هذا أن العبقرية في النشيد منبعها اللحن وليس الكلمات، وهذا هو حال جميع أعمال سيد درويش، وهو أول ملحن للأناشيد الوطنية. وإذا افترضنا تلحين نفس الكلمات بواسطة أي ملحن من ذلك العصر فلن يخرج اللحن عن موشحات كامل الخلعي أو طقاطيق داود حسني أو أدوار إبراهيم القباني. ومن الأكاذيب التي نشرت حول "زوروني كل سنة مرة" على سبيل المثال أنها من تأليف يونس القاضي رغم أن الأغنية ذاعت وانتشرت في الإسكندرية عام 1914 وعمر سيد درويش 22 عاما أي قبل أن يعرفه أحد أو يصادقه أو يكتب له كما يزعمون
· إن أسرة سيد درويش قامت بتوثيق جميع مؤلفات جدهم وأعطت لكل مؤلف حقه بذكر اسمه إلى جانب النص، ومنهم بديع خيري وبيرم التونسي وأمين صدقي وغيرهم، بمن فيهم يونس القاضي نفسه الذي ذكر اسمه بجانب ما ألفه نصوص لحنها بالفعل سيد درويش، وليس من بينها لا نشيد بلادي ولا زوروني ولا أغنية الكترة ولا أهو دا اللي صار ولا أي من أدوار سيد درويش.
· على أي حال لا تلقى دعوات نسبة النشيد القومي لمؤلف التفاهات والترهات قبولا بين الناس رغم الصراخ والعويل والإلحاح، ببساطة لأن لا أحد يصدق ما يدعون. وكلنا يعلم جيدا كيف تدار المواقع العربية وكيف يقتات معظمها على صياح الببغاوات، ونعلم أيضا كيف تحاك المؤامرات داخل بعض المؤسسات الصحفية والأكاديمية من خلال أبحاث وهمية لا تستند على أية أدلة أو وثائق وإنما فقط على تزوير التاريخ وتشويه صورة البلاد أمام شعبها وأجيالها الجديدة قبل أي طرف آخر"
يظل نشيد بلادي أحد الأعمال الكبرى في تاريخ مصر الفني رغم بساطته، لا يتقادم بالزمن وإنما على العكس يزداد بهاء وجلالا واحتراما، وتعبيرا مخلصا عن الشعور القومي المصري، أهم محرك في المنطقة، ويظهر جليا أهمية الموسيقى والغناء في حياة الشعوب كما يجيب على السؤال لماذا تحاول بعض القوى الظلامية تشويه الفن وإظهاره كما لو كان لعنة يجب الفرار منها، وحرمت تحية السلام الوطني كما حرمت تحية العلم، فالهدف تفتيت وحدة الشعوب تمهيدا للسيطرة عليها والتهام مقدراتها.