ألحان بليغ حمدى - غناء أم كلثوم
المقدمة الموسيقية
تحليل موسيقى د.أسامة عفيفى
تمهيـــد:
قدمت فات الميعاد فى شتاء عام 1967 ، وكان بليغ حمدى قد لحن لأم كلثوم قبلها عدة أغنيات بدأت بأغنية حب إيه عام 1959 اقتربت فى أسلوبها من أسلوب ألحان رياض السنباطى العاطفية لأم كلثوم ولكن بطريقة أخف فى التعامل مع الكلمات واللحن وامتازت ببساطة خاصة جعلتها أقرب للترديد بل والحفظ من قبل الجمهور ، وساهمت ألحان بليغ مع ألحان محمد عبد الوهاب فى انتقال أغانى أم كلثوم إلى مرحلة جديدة فبعد أن تعود الجمهور طويلا على أن فن أم كلثوم للسماع فقط أصبح يغنى أغانيها ، وربما لا تزال أغنية سيرة الحب خير مثال على ذلك حتى الآن وهى من الأغنيات المفضلة لهواة الغناء والطرب الشرقى والإيقاع الخفيف الذى يغلب عليه الطابع الشعبى
الطابع العام:
فى فات الميعاد فقد اللحن الغنائى هذه الخاصية ، أى خفة اللحن ، وربما كان السبب فى ذلك هو الكلمات نفسها للشاعر مرسى جميل عزيز التى تتحدث عن حالة خاصة من فقدان العاطفة أكثر منها عن تولدها أو توهجها ، واندماج الملحن فى التعبير عن هذه الحالة فهى تقول فى مطلعها:
فات المعاد ، وبقينا بعاد
والنار بقت دخان ورماد
تفيـد بإيه يا نـدم ، وتعمل ايه ياعتاب
طالت ليالى الألم ، واتفرقوا الاحباب
غلب التعبير على أسلوب بليغ حمدى من أول جزء فى العمل وهو المقدمة ، فجاءت حزينة معبرة عن الجو النفسى السائد ، وشتان بين هذا الجو وأغنية سيرة الحب المليئة بالفرح والمرح والتفاؤل
تتميز المقدمة الموسيقية بقدر عال من الإحساس الرقيق والتعبير الموسيقى الغنى رغم بساطة جملها ، ويلاحظ فى هذه المقدمة التى يمكن أن تصنف تحت عنوان الموسيقى الهادئة عدم استخدام الإيقاعات السريعة أو الراقصة ، بل إن جملة الإيقاع تمثلت فقط فى فقرة أداء الساكسفون وتكرارها بالتبادل مع الأوركسترا واستغرقت الجملة الإيقاعية كلها دقيقتين فقط من خمس دقائق هى كل زمن المقدمة
كما تتميز بتآلف مقاطعها رغم تأليفها من أربعة مقامات مختلفة ، وهى من المقطوعات الموسيقية القليلة التى تبدأ فى مقام وتنتهى فى مقام آخر على عكس الشائع فى تأليف المقطوعات والمقدمات المركبة
التكوين الفنى:
تتكون مقدمة فات الميعاد من 4 مقاطع رئيسية كل منها من مقام مختلف هى :
الحجاز ، الفرحفزا ، الكورد ، و راحة الأرواح وهو مقام الغناء
المقطع الأول مقطع حوارى غير موقع بين آلات القانون والباص والأوركسترا الوترى على مقام الحجاز
المقطع الثانى ميلودى انسيابى غير موقع على مقام فرحفزا ( نهاوند النوا / رابعة الحجاز) يؤديه الأوركسترا بالتبادل مع الجيتار
المقطع الثالث لحن ميلودى على مقام الكورد موقع بإيقاع رباعى هادئ مشكل من ثلاث تكات ودم فى آخره : تك/ تك/ تك/ دم ، بعزف منفرد على آلة الساكسفون النحاسية فى أداء مطوع تماما للطرب الشرقى ، ويردد الأوركسترا نفس الميلودى الذى يتوقف الإيقاع بنهاينه
المقطع الرابع عودة للحوار غير الموقع بين وهنا بين آلة الكمان والأوركسترا على مقام راحة الأرواح يبدأ بدخول أوركسترالى مفاجئ بحركتين من جواب الكورد إلى رابعة المقام المشتركة بينهما يتبعه تقسيم تنازلى حر منفرد على الكمان فى عدة جمل متعاقبة يتابعها الأوركسترا بتكرار حركتى الدخول القوى بعد كل جملة حتى يستقر اللحن على أساس المقام ، ثم يؤكد المقام بتركيز قصير من الأوركسترا على الأساس ثم بتقسيم خفيف على القانون تمهيدا لبدء الغناء دون مصاحبة إيقاعية
جاء الانتهاء بالمقطع الأخير على مقام راحة الأرواح الشرقى مفاجأة غير متوقعة بعد تتابعات على ثلاثة مقامات لا تحتوى على نغمات ربع التون الشرقية ، ولم تكن محاولة للتطعيم أو الترصيع بل خروج تام من الجو الرومانسى إلى نغمة أساسية مستقلة لها جذور عميقة فى التراث الموسيقى واتصال قوى بالفولكلور الشعبى وهى التى ارتكز عليها الغناء وأصبحت مقام الأغنية الرئيسى ، وقد يثير هذا التحول المفاجئ اندهاش السامع فإما أن يقبله وإما أن يظل على اندهاشه ، وفى الحالتين الفائز هو التعبير ، فكلمة فات المعاد لا تعبر عن بداية شيء ما بقدر ما تعبر عن انتهائه ، والكلمة مليئة بشعور الندم على ضياع الجميل والساحر والأسف للواقع والآتى ، فلا فائدة من التحليق فى جو الأحلام ولنقبل الحياة كما هى الآن
التجديد والابتكار:
تنسج المقاطع الأربعة جوا تعبيريا مليئا بالشجن والعاطفة ، ورغم ارتكاز الأداء على آلات غربية كالجيتار والساكسفون إلا أن اللحن أضفى الطابع الشرقى على أداء هذه الآلات التى لا يكاد يشعر السامع أنها آلات غريبة عن الموسيقى العربية ، خاصة آلة الساكسفون التى فاجأت الجمهور بالظهور فى أغنية لفنانة محافظة كأم كلثوم ، بهذا المقطع الساكسفونى جاء بليغ حمدى بروح جديدة إلى الموسيقى العربية
بعدها انتشر استخدام الساكسفون وزادت شعبيته لدى الأسماع العربية وأفردت له تسجيلات لأغنيات عربية كثيرة أعيد أداؤها باستخدام هذه الآلة وكبديل أحيانا لصوت المطرب ، ولم يمنع رواجه كآلة شائعة فى موسيقى الجاز البعيدة تماما عن الميلودية أداء الساكسفون الشرقى للميلودية المطربة بل إن فى مقطع فات الميعاد تكاد الآلة تنطق من فرط الإحساس والطرب ، ولا شك فى أن دور العازف هنا أساسى فى التعبير الموسيقى إذ أن الموسيقى وحدها قد تعزف بأكثر من طريقة ، والآلات النحاسية عموما من أقوى الأصوات فى الأوركسترا وأوضحها وتحتاج إلى عازف على قدر كبير من المهارة فى التحكم بالآلة وإخضاعها لإحساسه الشخصى باللحن ، وربما كان بليغ حمدى من أوائل من قدم هذه الفكرة لكنها كانت قد بدأت لتوها فى الغرب وسرعان ما سمعنا تسجيلات خاصة بالساكسفون يعزفها فاستو بيبتى على نغمات من الأغانى الغربية التى تم اختيارها على أساس تمتعها بميلودية سائدة وسط آلاف أغانى البوب ، ونجح بيبتى فى تقديم هذا القالب من إعادة التسجيل وانتشرت تسجيلاته فى الشرق والغرب بنجاح كبير فى السبعينات
التقييـــم العـــام:
وتعد مقدمة فات الميعاد من أغنى ما قدم بليغ حمدى كموسيقى ، ورغم أنه قد قدم العديد من المقدمات للأغانى إلا أنها لم ترق إلى مستوى هذه المقدمة فنيا وجماليا ، وقد امتازت بترابط أجزائها وانسجامها رغم التباعد النسبى بين مقاماتها واختيار طرق جديدة ذكية لاشتقاقها من بعضها ، وساهم ذلك فى تولد شعور بوحدة اللحن
نقطــة تحــول:
ومن الجدير بالملاحظة اندماج بليغ حمدى بدءا من هذا اللحن فى منافسة قوية مع محمد عبد الوهاب فى التلحين لأم كلثوم ، إذ أن ألحان بليغ لأم كلثوم بعد ذلك اعتمدت نفس أسلوب عبد الوهاب فى استخدام الآلات الجديدة والإكثار من الإيقاعات الراقصة وتعدد المقامات وغيرها من عناصر الإبهار الموسيقى التى برع فى تقديمها عبد الوهاب ، ولولا تلك المنافسة لربما ظلت ألحان بليغ لأم كلثوم فى الدائرة السنباطية التقليدية ، والغريب أن محمد عبد الوهاب الملحن الأقدم والأكبر سنا هو الذى أشعل تلك المنافسة ، وتمثلت عناصر وأدوات هذه المنافسة فى عدة أشكال منها:
· المقدمات الموسيقية المركبة
· الآلات الجديدة: الجيتار ، الساكسفون ، الأورج ، الأكورديون
· الإيقاعات الجديدة والمشتقة
· الضبط الدقيق لأداء الأوركسترا
· إحكام الجمل الغنائية
· ابتكار جمل موسيقية جديدة
· استخدام أكثر للحوار الموسيقى كبديل للجمل المسترسلة
ورغم أن بليغ حمدى قد قدم نفسه منذ احترافه الفن كملحن وليس صانع موسيقى فإنه فى هذه التجربة الفريدة قد دخل إلى عالم التأليف الموسيقى وهو الفنان الذى لم نسمع له مقطوعة موسيقية مستقلة ، وقد ظل ملحنا بالدرجة الأولى للنهاية ولم تخرج أعماله الموسيقية عن نطاق مقدمات الأغانى أو موسيقى الوصلات ، ورغم أنه قام بتأليف الموسيقى التصويرية لبعض الأفلام والمسلسلات إلا أنها لم تتضمن ما يمكن الإشارة إليه كعمل موسيقى مستقل
نقـــد مقـــارن:
وقد بلغ من تعلق بليغ حمدى بأسلوب عبد الوهاب واقتفاء أثره ظهور عدة بصمات وهابية فى هذه المقدمة ، وهى ليست اسثناء فقد استمر تعلق بليغ به فى أغان أخرى فى موسيقى المقدمات بالذات ، ولكن يهمنا هنا ذكر ما ظهر منها فى فات المعاد:
1- اللحـــــــن:
أنه جاء بجملة ميلودية لمدة 5 ثوان فى نهاية مقطع الساكسفون على مقام الكورد تكررت بالأوركسترا ثلاث مرات متعاقبة عند ختام المقطع أى لمدة 15 ثانية هى نسخة طبق الأصل وبنفس التكرار من نهاية مقدمة أغنية أمل حياتى التى لحنها عبد الوهاب لأم كلثوم قبلها بعامين فى 1965 واشتهرت كثيرا لرقتها المتناهية ، وعلق الجمهور المتابع بطبيعة الحال لكن لم يعلق أى منهما على تلك الجملة ، لا عبد الوهاب ولا بليغ
2- التوزيـــع:
استخدام نفس التوزيع الألى للجملة السابقة أى على آلة منفردة يتم تكرار أدائها بالأوركسترا ، الساكسفون فى فات المعاد والأكورديون فى أمل حياتى
3- الإيقـــاع:
جاء الإيقاع الوحيد فى المقدمة فى مقطع الساكسفون على نفس إيقاع مقدمة أغنية أمل حياتى أيضا ، وكان إيقاعا جديدا وقتها ، دلالة على أن ابتكار هذا الإيقاع يعود أصلا لمحمد عبد الوهاب
4- الانتقال المقامى:
التحول بين المقطع الثالث والرابع من مقام الكورد إلى راست النوا بالتوقف عن الإيقاع وإدخال سولو الكمان الحر هو نفس فكرة وأسلوب محمد عبد الوهاب فى مقدمة أمل حياتى أيضا مع اختلاف نهاية السولو حيث استقر فى فات المعاد على راحة الأرواح ، وهو انتقال غير متوقع ، بينما استقر فى أمل حياتى على البياتى ، المقام الأقرب إلى الكورد ، والمستمع لمقدمة أمل حياتى يلاحظ سيطرة مقام الكورد على جو المقدمة بالكامل كمقام أساسى لا يتم الانتقال بعيدا عنه إلا فى تلك الجملة الاعتراضية فى سولو الكمان ، والعودة فى النهاية إلى مقام الكورد الذى هو مقام الغناء الرئيسى وبذلك تكون وحدة النسيج الفنى عند عبد الوهاب أوضح وأثبت منها فى فات المعاد التى تنقلت مقدمتها بين أربعة مقامات مختلفة وانتهت بمقام غير الذى بدأت به وبدأ الغناء فى مقام مختلف تماما عن جو المقدمة ، تحليل موسيقى د.أسامة عفيفى فات الميعاد موسيقى بليغ حمدى
بينما اشتعلت بين عبد الوهاب وبليغ فى تلحين أغانى أم كلثوم ، وهى قمة فنية عليا ورائدة ، لحق السنباطى بقطار المنافسة بعد قمة الأطلال التقليدية عام 1966 فى لحن أقبل الليل لأم كلثوم عام 1969 من كلمات أحمد رامى وقدم فيها ما استطاع من تجديد ، وكذلك من أجل عينيك عام 1972 ، لكن الجمهور المتابع بشغف شديد خاب أمله عندما لم يلحق محمد الموجى بهذا القطار السريع ، فقد لحن لها فى قمة تلك المنافسات أغنية جاءت بعد انتظار طويل للموجى على محطة أم كلثوم لم نسمع فيها أى شيء جديد ، لا موسيقى ولا آلات ولا إيقاعات ، وكانت أغنيته إسأل روحك عام 1969 شرقية تقليدية بعيدة تماما عن الابتكار والتجريب ، وهو شيئ مستغرب على فنان عرف بتجريبيته الجريئة خاصة فى ألحانه لعبد الحليم حافظ ، ورغم أنه قدم خلال السبعينات موسيقى اتسمت بالتجديد والابتكار فى أغان حديثة كرسالة من تحت الماء وقارئة الفنجان ، ولم تسنح الفرصة للموجى بعدها للتلحين لأم كلثوم وربما كان يجب عليه استغلال تلك الفرصة فى استعراض موهبته فهى لم تتكرر
كذلك كان تكوين سيد مكاوى الفنى ، آخر من لحن لأم كلثوم ، عقبة طبيعية فى طريق تقديم أى جديد على هذه القمة فجاء لحنه الوحيد لها يا مسهرنى عام 1972 مفرطا فى التقليدية وبذلك انحصرت المنافسة الحقيقية فى الستينات والسبعينات بين محمد عبد الوهاب ورياض السنباطى وبليغ حمدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق