كلاسيكيات الموسيقى العربية * أرشيف * استماع *  تحميل *  نقد فنى *  تحليل موسيقى* أفلام * صور *  تسجيلات * كلاسيكيات الموسيقى العربية
كلاسيكيات الموسيقى العربية * الخمسة الكبار * سيد درويش * محمد القصبجى * زكريا أحمد * محمد عبد الوهاب * رياض السنباطى * نجوم الغناء العربى * أم كلثوم * عبد الوهاب * فيروز * عبد الحليم * ألحان التراث * موشحات * قصائد * أدوار * كلاسيكيات الموسيقى العربية

الثلاثاء، 17 أبريل 2012

ملاحظات على تطوير الموسيقى التركية

 

كتبه: موتلو تورون  ترجمة: فاضل التركي - إهداء للعزيز الأستاذ أحمد الصالحي
الموسيقى التركية لم تزل تتغير. و من أجل توجيه هذا التغيّر، فإنه من الواجب تعليم المؤلفين و الوسطاء ( التلفزيون، الراديو و الناشرين الذين يختارون الموسيقى ويعرضونها على عموم المستمعين) و المستمعين، تعليمهم جيّداً. و بما أن كلاً من هذه المجموعات تتطلب بحثاً مستقلاً بذاته، فسأخصص هذه المقالة لما يتوجب على المؤلفين عمله. 
تعدد الأصوات يضيف بعداً آخراً للموسيقى. لا يجب أن تُحرم الموسيقى التركية من هذا البعد. و عندما تُنَفّذُ تعددية الأصوات بذكاء بطريقة تناسب الموسيقى التركية، فإنها تعملُ. ولا نستبعد في ذلك الاستماع والتجريب والبحث. على المؤلفين أن لا يخشوا التفكير في الموسيقى التركية وتعدد الأصوات معاً.  الكلمات تحدّ من التجريد و الذاتية في الموسيقى؛ و يضيع المستمع خياله و حريته اللانهائية في الاختيار. (مهما كان الشعر جميلاً، فإن الموسيقى سيتم تصورها ضمن توجيه الكلمات). الشعر يسهل على المستمع و يمهد الطريق للرخيص في صناعة الموسيقى. 
علينا أن نرفع من عدد مؤلفات الأعمال الموسيقية الآلية في موسيقانا. موسيقانا الكلاسيكية هي في العادة موسيقى بنيت على الكلمات. و الأعمال القليلة الآلية منها، تبدوا كأنها أُلّفت كأغانٍ، تتبع نمط صوت الإنسان (من حيث المدى والمسافات المتجاورة و تأليف الجمل الموسيقية ). 
وفي توجه جديد بدأ بجميل بك الطنبوري، بدأت المؤلفات الآلية تستشعر في مناطق كأنها بالفعل كتبت للآلات. وإن هناك قطعاً لسعد الدين أريل و فريد ألنار و رشاد آيسو و مؤلفين عظام معاصرين آخرين، ظهر من الواضح أنها كتبت للآلات. وبالإضافة إلى الأقسام التي كتبت بأسلوب غنائي، فإن القطع الآلية يتوجب أن تحوي أقساماً تظهر إمكانيات الآلات. في موسيقانا التقليدية، يضيف كل عازف الزخارف أو يبسط كل نوتة على ما يحب أو ما يناسب آلته. وكل حفلة تختلف عن سابقتها وعن النوتة الموسيقية. و هذا يبدو واضحاً عندما يقارن أحدنا تسجيلاً مع تسجيل لجميل بك الطنبوري نفسه يعزف بالنوتة ( مثلاً، سماعي شد عربان). لكن في المقابل، فإن كثيرا من الحفلات اليوم على قناة تي آر تي TRT و على الراديو لا تتجاوز حدود النوتة الموسيقية المكتوبة. ولأن مؤلفاتنا كتبت بنفس الشكل لكل العازفين، فإن عازفينا يتوجب عليهم أن يعزفوا كما تصوّر لهم المؤلف ان يعزفوا مثل ما يكون في موسيقى الجاز أو موسيقى الباروك و الموسيقى الأقدم منهما.  و برغم اختلاف شخصية وإمكانيات كل آلة، فإن موسيقانا لم تكتب لكل آلة على حدة. لم تكتب لإمكانيات كل آلة على حدة كالبيانو و الغيتار و التشيلو وكأن كل شئ سيعزفه العازفون هو محدد مكتوب. و رغم منطقية المسميات كـمسمى "بشرف للناي" و مسمى "سماعي للكمنجة والقانون"، فإن مثل هذه الأعمال لم تر الوجود. و في ضوء هذا، فإن الشريف محيي الدين حيدر (الشريف محي الدين تارغان) كان قد كتب وعزف أعمالاً ودراسات مخصصة للعود وكانت قد لقيت ترحيباً جيداً في العالم. هذه الأعمال تدفع بإمكانيات العود و إن هناك تعبيرات حسنة كان توصّل لها، لم يكن من الممكن أن تتوفر لعازف عود. كتب بعده يالشين تورا "لعبة الأمواج" أو Dalgalarin Oyunu للقانون وكُتبت قطع للعود كانت عزفت في مهرجان اسطنبول على يد منير نور الدين بيكن. إن مزيداً من مثل هذه الأعمال التي نكتب ونعزف في دوائرنا الخاصة، يجب أن تكتب و تنشر!  يجب ان تكتب القطع لتناسب تحديداً شخصية آلاتنا وإمكانياتها التعبيرية لتظهر تقنياتها و تتوسع حدودها. 
 لدينا ذخيرة من الأعمال الكبرى كتبت تماشياً مع عَرُوض شِعرنا الموزون. وهذه ليست الحال مع الشعر الحر و الشعر التركي الحيدث. (اليوم، انتشر الشعر "الغنائي الرخيص" على التلفزيون و الراديو و عند ناشري الموسيقى ضمن التوجه "فيه المقدار الذي يحتاج ليكون منتشراً شائعاً"). في كل عصر مضى، كان الموسيقيون قد لحنوا شعرهم المعاصر. يجب أن لا تنحدر الموسيقى عن مستوى الشعر التركي الحديث. الشعر الموزون فيه إيقاعه الذي نشعر به على الفور و قد لقي هذا الإيقاع نظيرا له في موسيقانا، ولقد تأسست العلاقة بين الأوزان والأقصاق ( الأعرج) والإيقاعات الكبيرة. والمبدأ هو أن المقاطع اللفظية الطويلة تُوفّق مع نوتة طويلة و المقاطع اللفظية القصيرة توفق مع النوتة القصيرة. و في الماضي القريب، تقلصت فكرة العَروض إلى هذه العلاقة التوفيقية، و في ضوء توجيهات لجنة التراث في تلفزيون تي آر تي، فإنه تواصل تلحين الكلمات بالطريقة المقطعية (النوتة الطويلة للمقطع الطويل والقصيرة للقصير). لكن طبيعة الموسيقى التركية هي أنها "عُرَبيّة" - فيها عُرب و زخرف صوتي- (يُمدُّ المقطع اللفظي على عدة نوتات). إن المبالغة في هذه الطريقة تجعل الإيقاع يتوارى إلى الخلف و تصبح الكلمات غير مفهومة. يجب أن يكون هناك توازن مثل ما في مؤلفات مصطفى جاويش وفي الأغاني الشعبية لروميلي. يجب أن يكون هناك توازن في العلاقة بين المقطع اللفظي و النوتة بحيث نصل للتعبير عن الشعر دون أن نفسد شخصية الموسيقى. إن كل قصيدة تملك إحساساً، إحساساً عاماً، عالماً. و التعبير عن هذا في الموسيقى شئ طبيعي جداً. و فضلاً عن هذا، فإن هناك اللغة التي كتبت بها القصيدة. ذات القصيدة لو كتبت بالإنجليزية أو الألمانية فستخرج بتقطيع لفظي مختلف و أنماط تشديد مختلفة. و هكذا، فإن الموسيقى يجب أن تكون متوافقة مع اللغة التركية في الشعر و كأن تطور الموسيقى في الشعر عُبّر عنها في اللغة ذاتها. وإذا غنى المؤدون، فعليهم أن يدخلوا والموسيقى في جو العالم الشعري.
مصدر المقالة
كتبه: موتلو تورون وترجمه: فاضل التركي
سيرة مختصرة لميتلو تورون: عازف عود و مؤلف موسيقي. رئيس المعهد التركي للموسيقى. ولد عام 1942 في أنقرة. تعلم المندولين والغيتار والعود وبرع فيه سريعاً. درّس في جامعة اسطنبول التقنية و معهد الموسيقى التركية و شرع في تدريس مادة فن الموسيقى التركية التقليدية في جامعة مرمرة. عمل قائدا للأوركسترا في فرقة مدينة اسطنبول و قدم مؤتمراً عن عزف و مؤلفات الشريف محي الدين تارغان في جامعة البوسفور. و قدم في تلفزيون تي آر تي حلقات عن المؤلف شوقي بك. له كتاب منهج اسمه "دروس عود". عزف بالعود والغيتار في التلفزيون في حفلات في تركيا وخارجها وقدم حفلات مع مشاهير عازفي الموسيقى التركية و هو عازف أول في فرقة البوسفور و فرقة موسيقى الغرفة في اسطنبول. ترجم كتاب مارسيل بتش في التوافق النغمي إلى التركية. دَرَسَ أغان قديمة كثيرة في عمر المائة عام كتبت بالنوتة القديمة و أعاد كتابتها بالنوتة الحديثة. له مؤلفات كثيرة في الغناء الديني و السماعيات و أعمال للفرقة و أعمال غنائية و أغان للأطفال و قطع للغيتار الكلاسيكي والمجموعة و للأفلام و للمسرح و غيرها ونال عليها 29 جائزة. صدرت له مجموعة من الألبومات. مصدر السيرة

الاثنين، 9 أبريل 2012

وصال المؤلف والمستمع

قد يتخيل المستمع إلى الموسيقى، أن المؤلف الموسيقي يكتب ما تمليه عليه ذائقته و تأخذه إليه حدود إبداعه، هكذا بلا قيود. يتخيل المستمع أنه ما عليه إلا أن يرخي عنان مسامعه للعمل ويمتع عقله وحواسه. بيد أن أحد أسرار الدهشة والاستمتاع والتلذذ بالموسيقى، أن يأتي المؤلف إلى أرضية مشتركة بينه وبين مستمعيه، ويحلق منها إلى عوالم عليا جديدة غير معهودة.

و حديثاً عن المؤلفين الموسيقيين الذين يشتعلون جدّةً على الدوام، فإن المؤلف الموسيقي يعمد إلى طرائق عدة، حتى يستطعم المستمعُ هذا العمل الجديد. من البديهي مثلاً أن يستخدم المؤلف مقامات موسيقية خبرتها أذن المستمع من الثقافة المحيطة وتربى في ظلها. وإذا لم يكن الأمر كذلك، كأن يحاول المستمع أن يستمع إلى موسيقى الشعوب الأخرى، فإن عليه أن يربي ذائقته على فهم هذه اللغة الجديدة (موسيقى الشعوب الأخرى) بكلماتها و نحوها و بلاغتها و سحرها الخاص. ومن البديهي أن يستخدم المؤلف إيقاعات معهودة، ثم يبني عليها وعلى المقامات، وعلى الآلات المعهودة أيضاً، جمله البديعة وصيغه الجديدة. لو غادر هذه الأرضية، فعليه أن يمهد أرضية من نوع آخر. من الطرائق التي يعمد إليها المؤلف لبسط هذه الأرضية المشتركة، إن بدأ بكلمة موسيقية جديدة صقلها للتوّ، أو جملة صاغها، غير معتادة، أن يستخدم التكرار. أن يكرر الكلمة والجملة، تكراراً حرفياً. ومن الطرائق أن يعمد إلى صيغة التقليد، كأن تقول الجملة آلة فتعيدها آلة آخرى أو تعيدها الفرقة أو ذات الآلة في مكان أخفض أو أعلى. و قد يوظف المؤلف التنويع، فيقول الجملة الموسيقية عادية مرة، أو مرنمة مرة، أو مزخرفة مرة، أوسريعة مرة، أو بإضافات مدهشة مرة أو أكثر.

قد يخلق بعض المؤلفين أرضية مشتركة بالصيغة الكلية للعمل. والصيغة هنا هي الشكل، فيقسم مثلاً العمل إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول هو فكرة أساسية، ثم يلي ذلك تحول وتبدّلٌ وتطورٌ، ثم يليه الختامُ. وكثر استخدام هذا الشكل الثلاثي كثيراً في الموسيقى، وهو يبعث على ثقة من المستمع أنه يعرف طريقه، مهما تمادى المؤلف غوراً في التجديد في داخل هذه التقسمية الثلاثية. وقد يكون العمل أكثر تعقيداً إذ هو مكون من أربعة أقسام مثلاً، لكن داخل كل قسم من هذه الأقسام، صيغة (داخلية) مختلفة عن كل صيغة في كل قسم آخر؛ ورغم ذلك، يظل المسمتع يعرف طريقه في الغابة الجديدة. وفي حينٍ لا يريد فيه المؤلف الالتزام بصيغة مهما كانت بسيطة أو معقدة، فإنه يلجأ إلى أرضية من نوع آخر، كأن يهيئ حبكة تسير عليها الحكاية الموسيقية، أو ينشئ موسيقاه على عمل أدبي أو أسطوري يمسك بخيوطه كل جديدٍ.

هذه مجرد أمثلة للطرائق التي يزود بها المؤلف المسمتع بخريطة للغابة الجديدة التي كثّفها وأثثها، ويريد للمسمتع أن يتخيّر له طريقاً فيها من طرق شتى، يتجوّل و يستكشف ويستلهم ويعيش تجربة جديدة. وفي الوقت الذي حاول بعض المؤلفين تجاوز هذه الأرضية، أو حاول بعض المستمعين التقليل من شأنها – مثل سماعه لموسيقى شعوب أخرى ذات أنظمة موسيقية أخرى، كان العمل الموسيقي بلا حظ. وفي وقت استسهل فيه من يشتغل في الموسيقى بالتأليف والتلحين، ولم تسعفهم الخبرات ولا المعرفة ولا الإمكانيات، وظنوا أنهم مبدعون بالفطرة، فسيكون نصيب المستمع غابات محترقة، أوشجيرات جافة وكسر هنا وهناك. و ربما أسعف هذا المؤلف زفاف الإعلام و تجييش أصوات الجماهير وبرمجتهم، وصناعة الميديا للأسماء وتصدر الألبومات؛ لتحظى قطعته الموسيقية بعمر أسبوع أو أسبوعين، ولا يبقى منها في الذاكرة الموسيقية بعدها أي أثر. وإذا كان المستمع قد جَبَلَ نفسه على تخيّر التجارب الموسيقية التي يريد أن يعيشها، و ربىّ ذائقته الموسيقية على الجديد الذي يستحق السماع، من أي أرض ومن كل صنف، فسيكتب في سجلّه الحافل أمتع الرحلات.
::. فاضل التركي

الخميس، 5 أبريل 2012

نسمع ساكن قصادي؟

ساكن قصادي - تحليل مبسط
كلمات حسين السيد - ألحان محمد عبد الوهاب - غناء نجاة الصغيرة
هذا تحليل مبسط بلا مصطلحات فنية .. لنسمع ونقرأ معاً ..


منذ بداية الستينات، عزم محمد عبدالوهاب على بدء مشروع جديد بتحدٍ جديد. لقد كان ذلك مشروع الانتقال بالتلحين أكثر في التعبيرية إلى أجواء أشدّ تطلباً. لقد انتقل بالتلحين من المراحل التي أسس لها في القصائد والمنولوجات ومختلف الأغنيات، من تلحين الكلمة والفكرة والجو العام إلى تلحين قصة مفصلة، إلى تلحين المشاهد والجو العام، مع الإهتمام الدقيق بالأفكار والكلمات والحروف، كل ذلك دون أن يشعر المستمع بكل هذه التعقيدات. ولكي يسهل على المستمع التمتع بهذه المادة الموسيقية الغنية، كان عبدالوهاب قد اختار الشعر القصصي العصري الذي يلامس المسمتع بحكاية سهلة المتناول، ليبقى الخيط الذي يربط بين الموسيقي والمستمع. من تجارب هذا المشروع كانت "أيظن" في عام 1960م، التي تلتها أعمال شتى منها "لا تكذبي" و "ساكن قصادي" و "فاتت جنبنا". ولكي نقدّر هذا المشروع، سنأخذ منه عيّنةً نتذوقها معاً ببساطة، هي أغنية "ساكن قصادي"، التي لحنها للفنانة نجاة الصغيرة و كتب هذه الأغنية الحبيب إلى القلب دوماً الشاعر حسين السيد، الذكي جداً والمهندس المفكر والخطر على مدى خط انتاجه في الشعر الغنائي.

الضربات الأولى تنذر برعب مُقلق يتصاعد و يهبط و يتنوع و يشتكل و تتبادل التعبير عنه الآلات الوترية في مجموعات. هذه الضربات التي تأتي فيما بعد بمعنىً آخر غير مرعب؛ لنتذكر. يلي الضربات دخول القانون منفرداً لترد عليه الفرقة يقول وتقول يقول وتقول في تحاور ينتهي بالتباطؤ إلى شبه صمت مقلق يبعث على الترقب.
ثم نبدأ في حكاية المصيبة. المصيبة تتلوها الفرقة الموسيقية في جمل بلا إيقاع. جمل يشبه بعضهاً بعضاً، جمل تقلد بعضها بعضاً، تتداخل بين آلات الطبقات العليا وآلات الطبقات المنخفضة. إذن، جئنا إلى ثيمة حدث مفجع. لكن المفاجأة أن تبدأ نجاة تغني بلا فجيعة كنا نتوقعها. إنها تحكي قصة حبها سعيدة البداية على الأقل، مغرقة في الرومانسية. من الآن فصاعداً إنتبهوا إلى كل كلمة كتبها حسين السيد!
الأغنية كتبت في ثلاثة مشاهد، ولنتفق على هذا من الآن. مشاهد مغرفة في الذاتية، الرومانسية، للفتاة التي تحكي قصتها التي تعيشها وحدها، لكن معنا.
يبدأ العمل ويواصل ثلاث دقائق من موسيقى القلق والتقلب والترقب المتلوي في ثيمة من الفجيعة يليها المشهد الاول حيث يرفع الستار. اسمعوا ارتفاع الستار. المشهد الأول الذي تصف فيه الفتاة حالها الأول، حال حب جارها والأحلام التي تعقدها، حال ترقبه خارجاً وداخلاً، و ترجو يوماً يُكشَفُ فيه مقدارُ حبها له فيهتم للأمر. إنها لا تستطيع أن تبوح له بشئ من كل ما يعتريها. تبدأ جواً عادياً حين تقول "ساكن قصادي و بحبه"، و هنا ترد الفرقة عليها، "بحبه"، وكأن فيها حبّا عميقاً؛ ثم تقولها بلحن آخر "بحبه"، منخفضة، منكسرة قليلاً، وترد الفرقة، عليها من الثيمة المفجعة التي سمعناها قبل حين. تغني "أتمنى أقابله"، في تصاعد في الخطر يصل إلى "فكرت أصارحه" والفرقة ترد بالفجيعة. "لكن أبدا، أبداً مقدرش أقول له" تغنيها نجاة بثيمة الفجيعة بذاتها. هكذا بدأ العدّ. إيقاع محسوب يعد كسرعة ثانية ثانية. يدخل الإيقاع "العداد"، لأن الفتاة بدأت "تستنى الأيام" و تراقب ألوان الأحداث، "ساعة ما يسهر" بلون و "معاد ما يرجع" بلون آخر، العدّاد مستمر، والحكاية تتطور، "وف كل خطوة أرسم أحلام"، "تكبر في قلبي"، "و القلب يطمع". هكذا حال الفتاة التي تحلم، تعيد أحلامها، وتعيد غناء المقطع والأيام تعد والخطوات تعد والأحداث تعد وتتكرر وتتشكل الموسيقى غناء وتنويعاً موسيقياً من الفرقة مع الإعادة ثلاث مرات، التي يفضل دائما عبدالوهاب. هكذا "و فْضِلتْ" .. أعطتنا كل هذا، ثلاث مرات، ثم، والعدّ مستمر، "و اقول مسيره"، "حيحس بيا"، "لو يوم صادفني"، "و سلم عليّا"، هكذا مقطعة فاصلة فاصلة تنتهي بكل عذوبة ورقة في منى الفتاة بأن يسلم عليها صدفة، ثم نقطة. والنتيجة، الجواب، بكل تأكيد وثقة، تعطيها جملة مقلِّدةٌ لسابتقتها: "حيلاقي صورته"، "ساكنة في عنيا"، "ويحس بيها"، "في رعشة إيدياّ". الموسيقى تؤكد هذه الثقة والتوقعات، إنها ذات الموسيقى في الجملة السابقة تحوي ذات الفواصل وتنتهي على النقطة ذاتها. كرر الصورة ثلاث مرات أيضاً. ثم تقف الموسيقى ويتوقف العدّ، ثم يبدأ إيقاع آخر مختلف، يعرِجُ. إن هي إلا أمانٍ. تمشي الموسيقى، تَعُدّ قليلا وتتباطأ وتتوقف، ثم تقول "كنت حاسة"، "إن حبه"، "كل مادا"، "كان بيكبر"، "كان بيكبر"، والموسيقى فضلاً عن تكرار الكلام تقول أيضا أن حبه كان يكبر من ذات الثيمة. ثم يلي ذلك جواب هذه الفقرة التي بدأت مع "كنت حاسة"، يأتي الجواب الموسيقي: "أبقى عايزة لو يكون لي قلب غير قلبي الصُغيّر!"، وهو تنتهي به الموسيقى صغيراً على الحب الذي يكبر. لا ننسى اللزم – الموسيقى التي تفصل الغناء- مازالت ثيمة الفجيعة التي تملأ الأجواء والفراغات كلما سنحت الفرصة. تتكرر الصورة مرتين، ثم تأتي الحقيقة مرة واحدة في الأخير لتختم المشهد الاول:"فضلت أمالي"، "مع الليالي "، "تقرب حبيبي اللي ساكن قصادي"، "حبيبي"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن"، "قصادي وبحبه" . تذكرون الضربات القلقة بداية الأغنية؟ .. "وبحبه" هي شكل رومانسي للضربات المرعبة التي بدأت بها الأغنية. إنه الحب الذي جلب كل هذا القلق. وينتهي المشهد ونحن نعرف بالتحديد "اللي ساكن" و "تحبه".
المشهد الثاني يبدأ بلحظة الرعب التي وشت بها بداية العمل. وتريات ترعد.. ترفع درجة القلق والترقب. يدخل القانون ليزيد الطين بلة. تستمر الوتريات على إيقاعها وتدخل موسيقى الزفة، لكنها حزينة، ونسمع في نهاية كل عبارة زغردة. الوتريات مستمرة في خلق القلق لا تغيب، ماذا يجري؟ إنه صوت "فرح"، وهي نائمة، صحت على الصوت، طلت من الشباك، كل شئ يبدو طبيعياً، زينة، وتهان، وناس، و العداد –نسمع الإيقاع- يتحرك بسرعة الثواني. تكرار للصورة ثلاث مرات!، أشاروا لها بأيديهم، و دعوا بالعقبى لها، هكذا تتصاعد الموسيقى فكرة بعد فكرة، حتى تهلل معهم من الفرح، بكل براءة، تهلل الموسيقى، وتهلل هي وتهلل الموسيقى، ثم تتباطأ الموسيقى، حين تقول "وسألت" لتتوقف الموسيقى، ليردون "قالوا جارك"، وترد "جاري حبيبي"، "حبيبي"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن قصادي وبحبه".
المشهد الثالث والأخير أكثر قسوة و فجيعة ودموعاً. ها هو الثيم المفجع يأتي موقّعاً (على إيقاع). إنه ايقاع بسرعة المشي. راحت "الفرح بالليل" و رسمت في عينيها الفرحة. ترسم الموسيقى – اللزمة الفَرِحة. حينها كان يرفع بيديه وعينيه الطرحة. لحظة الفرحة تقابل لحظة الطرحة. ننظر مدى كتمانها للألم، رغم كل الضغط النفسي و تمالك مشاعرها؛ التصاعد الذي تشي به الموسيقى وهي تغني "شربت شرباتهم وأنا قاعدة بصالهم" و يالثقل اللحظة شعراً و موسيقى. إنها لا تغمض جفناً وشجاعتها – حبها – جلبها للفرح و حبها حتّم عليها شرب الشربات، و لم تغمض جفناً تشهد كل شئ. وعيها كامل معهم .. حتى الآن، وقد "مشت"، "مشت" توصلهم. هي أقسى درجات الوعي، ثم أخذت تُحدِّث نفسها .. بعد هذه الليلة .. أصبح غيرها أولى به، ولا حق لها حتى التفكير في الأمل. إنتهى كل شئ. توقف الإيقاع. انتهت الحكاية عند هذه الذروة. هكذا نتوه معها من الآن .. هي الآن مجنونة تائهة .. تاهت وسط الزحام، لا أحد يحس بها .. تريد أن تجري و وتجري وتجري .. والناس تنبهها. الناس التي تمشي في النور .. في موسيقى فَرِحةٍ، طريق تنوره الشموع.. وهي التي تمشي في طريق مهجور تنوره الدموع .. طريق فَرِحة .. وطريقها المفجع في موسيقى فجائعية .. هكذا تائهة .. حتى تصل إلى بابه .. جارها الذي تعرفه تماماً لكنه لا يدري عن قلبها ولا ما نابه .. لم يبق إلا الويل لها ولأيامها من جرح عذابه .. هي حكاية "اللي ساكن قصادي وبحبه" .. أغنية غنية بالتعابير والثيمات والمقامامات والإيقاعات والمكنة في التلحين والشعر والغناء .. وكثير من التفاصيل التي تتكشف كلما سمعنا. نسمع ساكن قصادي؟


فاضل التركي