كلاسيكيات الموسيقى العربية * أرشيف * استماع *  تحميل *  نقد فنى *  تحليل موسيقى* أفلام * صور *  تسجيلات * كلاسيكيات الموسيقى العربية
كلاسيكيات الموسيقى العربية * الخمسة الكبار * سيد درويش * محمد القصبجى * زكريا أحمد * محمد عبد الوهاب * رياض السنباطى * نجوم الغناء العربى * أم كلثوم * عبد الوهاب * فيروز * عبد الحليم * ألحان التراث * موشحات * قصائد * أدوار * كلاسيكيات الموسيقى العربية

الخميس، 5 أبريل 2012

نسمع ساكن قصادي؟

ساكن قصادي - تحليل مبسط
كلمات حسين السيد - ألحان محمد عبد الوهاب - غناء نجاة الصغيرة
هذا تحليل مبسط بلا مصطلحات فنية .. لنسمع ونقرأ معاً ..


منذ بداية الستينات، عزم محمد عبدالوهاب على بدء مشروع جديد بتحدٍ جديد. لقد كان ذلك مشروع الانتقال بالتلحين أكثر في التعبيرية إلى أجواء أشدّ تطلباً. لقد انتقل بالتلحين من المراحل التي أسس لها في القصائد والمنولوجات ومختلف الأغنيات، من تلحين الكلمة والفكرة والجو العام إلى تلحين قصة مفصلة، إلى تلحين المشاهد والجو العام، مع الإهتمام الدقيق بالأفكار والكلمات والحروف، كل ذلك دون أن يشعر المستمع بكل هذه التعقيدات. ولكي يسهل على المستمع التمتع بهذه المادة الموسيقية الغنية، كان عبدالوهاب قد اختار الشعر القصصي العصري الذي يلامس المسمتع بحكاية سهلة المتناول، ليبقى الخيط الذي يربط بين الموسيقي والمستمع. من تجارب هذا المشروع كانت "أيظن" في عام 1960م، التي تلتها أعمال شتى منها "لا تكذبي" و "ساكن قصادي" و "فاتت جنبنا". ولكي نقدّر هذا المشروع، سنأخذ منه عيّنةً نتذوقها معاً ببساطة، هي أغنية "ساكن قصادي"، التي لحنها للفنانة نجاة الصغيرة و كتب هذه الأغنية الحبيب إلى القلب دوماً الشاعر حسين السيد، الذكي جداً والمهندس المفكر والخطر على مدى خط انتاجه في الشعر الغنائي.

الضربات الأولى تنذر برعب مُقلق يتصاعد و يهبط و يتنوع و يشتكل و تتبادل التعبير عنه الآلات الوترية في مجموعات. هذه الضربات التي تأتي فيما بعد بمعنىً آخر غير مرعب؛ لنتذكر. يلي الضربات دخول القانون منفرداً لترد عليه الفرقة يقول وتقول يقول وتقول في تحاور ينتهي بالتباطؤ إلى شبه صمت مقلق يبعث على الترقب.
ثم نبدأ في حكاية المصيبة. المصيبة تتلوها الفرقة الموسيقية في جمل بلا إيقاع. جمل يشبه بعضهاً بعضاً، جمل تقلد بعضها بعضاً، تتداخل بين آلات الطبقات العليا وآلات الطبقات المنخفضة. إذن، جئنا إلى ثيمة حدث مفجع. لكن المفاجأة أن تبدأ نجاة تغني بلا فجيعة كنا نتوقعها. إنها تحكي قصة حبها سعيدة البداية على الأقل، مغرقة في الرومانسية. من الآن فصاعداً إنتبهوا إلى كل كلمة كتبها حسين السيد!
الأغنية كتبت في ثلاثة مشاهد، ولنتفق على هذا من الآن. مشاهد مغرفة في الذاتية، الرومانسية، للفتاة التي تحكي قصتها التي تعيشها وحدها، لكن معنا.
يبدأ العمل ويواصل ثلاث دقائق من موسيقى القلق والتقلب والترقب المتلوي في ثيمة من الفجيعة يليها المشهد الاول حيث يرفع الستار. اسمعوا ارتفاع الستار. المشهد الأول الذي تصف فيه الفتاة حالها الأول، حال حب جارها والأحلام التي تعقدها، حال ترقبه خارجاً وداخلاً، و ترجو يوماً يُكشَفُ فيه مقدارُ حبها له فيهتم للأمر. إنها لا تستطيع أن تبوح له بشئ من كل ما يعتريها. تبدأ جواً عادياً حين تقول "ساكن قصادي و بحبه"، و هنا ترد الفرقة عليها، "بحبه"، وكأن فيها حبّا عميقاً؛ ثم تقولها بلحن آخر "بحبه"، منخفضة، منكسرة قليلاً، وترد الفرقة، عليها من الثيمة المفجعة التي سمعناها قبل حين. تغني "أتمنى أقابله"، في تصاعد في الخطر يصل إلى "فكرت أصارحه" والفرقة ترد بالفجيعة. "لكن أبدا، أبداً مقدرش أقول له" تغنيها نجاة بثيمة الفجيعة بذاتها. هكذا بدأ العدّ. إيقاع محسوب يعد كسرعة ثانية ثانية. يدخل الإيقاع "العداد"، لأن الفتاة بدأت "تستنى الأيام" و تراقب ألوان الأحداث، "ساعة ما يسهر" بلون و "معاد ما يرجع" بلون آخر، العدّاد مستمر، والحكاية تتطور، "وف كل خطوة أرسم أحلام"، "تكبر في قلبي"، "و القلب يطمع". هكذا حال الفتاة التي تحلم، تعيد أحلامها، وتعيد غناء المقطع والأيام تعد والخطوات تعد والأحداث تعد وتتكرر وتتشكل الموسيقى غناء وتنويعاً موسيقياً من الفرقة مع الإعادة ثلاث مرات، التي يفضل دائما عبدالوهاب. هكذا "و فْضِلتْ" .. أعطتنا كل هذا، ثلاث مرات، ثم، والعدّ مستمر، "و اقول مسيره"، "حيحس بيا"، "لو يوم صادفني"، "و سلم عليّا"، هكذا مقطعة فاصلة فاصلة تنتهي بكل عذوبة ورقة في منى الفتاة بأن يسلم عليها صدفة، ثم نقطة. والنتيجة، الجواب، بكل تأكيد وثقة، تعطيها جملة مقلِّدةٌ لسابتقتها: "حيلاقي صورته"، "ساكنة في عنيا"، "ويحس بيها"، "في رعشة إيدياّ". الموسيقى تؤكد هذه الثقة والتوقعات، إنها ذات الموسيقى في الجملة السابقة تحوي ذات الفواصل وتنتهي على النقطة ذاتها. كرر الصورة ثلاث مرات أيضاً. ثم تقف الموسيقى ويتوقف العدّ، ثم يبدأ إيقاع آخر مختلف، يعرِجُ. إن هي إلا أمانٍ. تمشي الموسيقى، تَعُدّ قليلا وتتباطأ وتتوقف، ثم تقول "كنت حاسة"، "إن حبه"، "كل مادا"، "كان بيكبر"، "كان بيكبر"، والموسيقى فضلاً عن تكرار الكلام تقول أيضا أن حبه كان يكبر من ذات الثيمة. ثم يلي ذلك جواب هذه الفقرة التي بدأت مع "كنت حاسة"، يأتي الجواب الموسيقي: "أبقى عايزة لو يكون لي قلب غير قلبي الصُغيّر!"، وهو تنتهي به الموسيقى صغيراً على الحب الذي يكبر. لا ننسى اللزم – الموسيقى التي تفصل الغناء- مازالت ثيمة الفجيعة التي تملأ الأجواء والفراغات كلما سنحت الفرصة. تتكرر الصورة مرتين، ثم تأتي الحقيقة مرة واحدة في الأخير لتختم المشهد الاول:"فضلت أمالي"، "مع الليالي "، "تقرب حبيبي اللي ساكن قصادي"، "حبيبي"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن"، "قصادي وبحبه" . تذكرون الضربات القلقة بداية الأغنية؟ .. "وبحبه" هي شكل رومانسي للضربات المرعبة التي بدأت بها الأغنية. إنه الحب الذي جلب كل هذا القلق. وينتهي المشهد ونحن نعرف بالتحديد "اللي ساكن" و "تحبه".
المشهد الثاني يبدأ بلحظة الرعب التي وشت بها بداية العمل. وتريات ترعد.. ترفع درجة القلق والترقب. يدخل القانون ليزيد الطين بلة. تستمر الوتريات على إيقاعها وتدخل موسيقى الزفة، لكنها حزينة، ونسمع في نهاية كل عبارة زغردة. الوتريات مستمرة في خلق القلق لا تغيب، ماذا يجري؟ إنه صوت "فرح"، وهي نائمة، صحت على الصوت، طلت من الشباك، كل شئ يبدو طبيعياً، زينة، وتهان، وناس، و العداد –نسمع الإيقاع- يتحرك بسرعة الثواني. تكرار للصورة ثلاث مرات!، أشاروا لها بأيديهم، و دعوا بالعقبى لها، هكذا تتصاعد الموسيقى فكرة بعد فكرة، حتى تهلل معهم من الفرح، بكل براءة، تهلل الموسيقى، وتهلل هي وتهلل الموسيقى، ثم تتباطأ الموسيقى، حين تقول "وسألت" لتتوقف الموسيقى، ليردون "قالوا جارك"، وترد "جاري حبيبي"، "حبيبي"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن"، "اللي ساكن قصادي وبحبه".
المشهد الثالث والأخير أكثر قسوة و فجيعة ودموعاً. ها هو الثيم المفجع يأتي موقّعاً (على إيقاع). إنه ايقاع بسرعة المشي. راحت "الفرح بالليل" و رسمت في عينيها الفرحة. ترسم الموسيقى – اللزمة الفَرِحة. حينها كان يرفع بيديه وعينيه الطرحة. لحظة الفرحة تقابل لحظة الطرحة. ننظر مدى كتمانها للألم، رغم كل الضغط النفسي و تمالك مشاعرها؛ التصاعد الذي تشي به الموسيقى وهي تغني "شربت شرباتهم وأنا قاعدة بصالهم" و يالثقل اللحظة شعراً و موسيقى. إنها لا تغمض جفناً وشجاعتها – حبها – جلبها للفرح و حبها حتّم عليها شرب الشربات، و لم تغمض جفناً تشهد كل شئ. وعيها كامل معهم .. حتى الآن، وقد "مشت"، "مشت" توصلهم. هي أقسى درجات الوعي، ثم أخذت تُحدِّث نفسها .. بعد هذه الليلة .. أصبح غيرها أولى به، ولا حق لها حتى التفكير في الأمل. إنتهى كل شئ. توقف الإيقاع. انتهت الحكاية عند هذه الذروة. هكذا نتوه معها من الآن .. هي الآن مجنونة تائهة .. تاهت وسط الزحام، لا أحد يحس بها .. تريد أن تجري و وتجري وتجري .. والناس تنبهها. الناس التي تمشي في النور .. في موسيقى فَرِحةٍ، طريق تنوره الشموع.. وهي التي تمشي في طريق مهجور تنوره الدموع .. طريق فَرِحة .. وطريقها المفجع في موسيقى فجائعية .. هكذا تائهة .. حتى تصل إلى بابه .. جارها الذي تعرفه تماماً لكنه لا يدري عن قلبها ولا ما نابه .. لم يبق إلا الويل لها ولأيامها من جرح عذابه .. هي حكاية "اللي ساكن قصادي وبحبه" .. أغنية غنية بالتعابير والثيمات والمقامامات والإيقاعات والمكنة في التلحين والشعر والغناء .. وكثير من التفاصيل التي تتكشف كلما سمعنا. نسمع ساكن قصادي؟


فاضل التركي

هناك تعليقان (2):

  1. عزيزى فاضل .. لقد أضفت شاعرا جديدا إلى نفس الكلمات .. ربما لأنك أضفت مستمعا جديدا بهذا التذوق المرهف .. لحظات استغراق وتأمل جميلة ورحلة رائعة برفقة المعانى والإحساس .. تحياتى

    ردحذف
  2. أهلا بالدكتور الفنان أسامة عفيفي ذي الذوق العالي والعارف براقي الموسيقى .. شكرا لك على التعليق والحضور والقراءة والدعم.

    كن دوما بخير
    فاضل التركي

    ردحذف