حكايتي في هذه المقالة بسيطة. هناك فكرة موسيقية في عمل موسيقي وردت في عمل موسيقي آخر.
هل هي سرقة أم اقتباس أم استعارة أم توظيف أم تجديد أم ماذا؟ هل هناك معايير تشير لهذه الأفكار و تحدد طبيعة و مظاهر ورودها في أعمال اخرى؟
ورود فكرة موسيقية وجدت مسبقاً، في عمل موسيقي لاحق، ليست وليدة اليوم ولا وليدة هذا القرن ولا الذي قبله. سنرى طبيعة استخدام الأفكار المسبقة في الأعمال الجديدة وسنورد الأمثلة وسنتطرق إلى بوادر ظهور قانون النشر وحقوق الملكية ثم نعطف على مظاهر استخدام الأفكار الموسيقية عبر التاريخ ونقترب من حكاية السرقة والإبداع والتقييد الذي يخيفنا اليوم.
قبل الشروع في موضوع "استخدام" الأفكار الموسيقية، لنتبين ماذا نعني بقولنا "فكرة موسيقية". فأول ما يتبادر للذهن عندما نقول "فكرة موسيقية"، يخطر بالبال أن الفكرة هي جملة موسيقية أو نغمة نرددها. و الجملة الموسيقية هي كالجملة في كلامنا أو كتابتنا. الجملة مكونة من كلمات هي أسماء وأفعال وحروف و علامات ترقيم كالفاصلة والنقطة والتعجب والاستفهام. الجملة الموسيقية هي كبيت شعر ننسبه للمتنبي نتداوله وننشده تلذذاً أو استشهاداً. الجملة الموسيقية هي فكرة، نعم، لكن الأفكار الموسيقية أوسع من ذلك بكثير؛ ولكي نعي ما أعني، سأضرب بعض الأمثلة هنا لما نسميه فكرة موسيقية.
الجملة الموسقية فكرة. الإيقاع فكرة. شكل المقطوعة الموسيقية فكرة. شكلها يمكن تصوره كشكل موشح فيه مطلع و دور و قفل. المطلع يتكون من أشطر والدور يتكون من أسماط وراء كل منها قفل؛ أماالقفل الأخير فهو الخرجة. الألوان ( كمزج لون العود بالكمان أو لون القانون بالكلارينيت ) في الموسيقى فكرة وأسلوب العزف فكرة و عدد الآلات المستخدمة فكرة و التجانس الصوتي فكرة. الأفكار لا تعد ولا تحصى. كيف لنا أن نتلمس كل هذه الأفكار كانت في عمل و أصبحت في عمل آخر، كما هي؛ صغيرة أو كبيرة، معدلة، مغيّرة، منوعة، إلى أحسن أو أسوأ، مقلوبة أو منثورة؟
قد نعطف في موضوعنا هذا ونعقد مقارنة بالسرقات الأدبية والكتابية، بسرقات الأفكار العلمية، بسرقات الفن التشكيلي، بالجرائم والاعتداءات والاتهامات التي تشغل المحاكم بالتحقيق والتدقيق و وضع التعويضات و العقوبات. لكننا لن نذهب بعيداً بغية التبسيط و نحاول تفهم هذا الشأن متى ظهر وكيف تطور ونتداول الأمثلة الممتعة ونبقى في حلبة الموسيقى.
أول ما ظهرت بوادر حقوق النشر – لاحظوا الاسم "النشر" – كان مع شيوع طباعة النوتة الموسيقية وتداولها من قبل الطبقات الوسطى إذ تشترى مع ظهور الأعمال الموسيقية ليتعلمها المهتمون والهواة و يعزفونها في بيوتهم وفي حفلاتهم وسهراتهم قبل أن تتغير وسائل التسلية إلى جهة ما هي عليه اليوم (كم هو غريب ما كان يسلي الناس بالأمس عند ناس اليوم). سَهُلَ أمر نسخ النوتة الموسيقية مع ظهور الطباعة وكانت مصدراً للدخل للموسيقيين والملوك والإقطاعيين. ثم توسع أمر الحقوق ليشمل أداء الموسيقى وتنفيذها وعزفها ليتطور حين وصلنا إلى عصر الميديا والإعلام و عصر الثقافة الشعبية الشائعة؛ وتوسع الجمهور ليستقطب شتى شرائح المجتمعات في جميع أنحاء العالم. ها قد جاء الوقت الذي أصبح فيه المردود المادي أضخم بكثير مما كنا نتصور في عصر انتشار النوتة الموسيقية! أصبح مقدار الربح يتعدى المؤلف ويدخل في مجالات الأداء و الحفلات والتسجيل ونسخ الاسطوانات وجاء عصر الإذاعة والتلفزيون وعصر الإنترنت والسوق الالكتروني وعصر أجهزة الموسيقى والكتاب الإلكتروني والعصر التفاعلي والفضاء الالكتروني. هكذا توسع مقدار الربح و توسع الجمهور وتوسعت الوسائل و جراً على ذلك توسع موضوع استخدام الموسيقى ونسخها من الطباعة للوسيلة المسموعة والمشاهدة الحية والمسجلة وتوسع ليصل إلى استخدام الفكرة الموسيقية في أعمال آخرين قد تكون مصدر ربح لهم من أكثر من ربح مؤلفها الأول. أفكار – ولنتذكر – قد لا تستخدم بشكلها الأول تماماً ولها ألف صيغة جديدة محتملة تعتمد على مهارة من أصبحت بين يديه قيد الاهتمام.
من هنا تنبثق حساسية الموضوع في الأساس تاريخياً ثم تتبعها تبعات تتعلق بالأصالة والإبداع عند المؤلفين وتذهب بنا في جدل هل هناك أصالة في البدء، أم هي تراكمات و أعمال على أكتاف أعمال أخر؟
أمثلة عبر التاريخ
لنتوقف قليلاً هنا، ونحاول أن نتناول بعض الأمثلة لنستوعب طبيعة "الاستخدام” للأفكار الموسيقية عبر تاريخ الموسيقى. عندما ألف براهمز سمفونيته الأولى، كان قد استلهم فيها الكثير من بيتهوفن. وحين ظهرت، كَتَبَ عنها أحد النقاد من بين نقاد آخرين كثر تناولوا الشاب المسكين: سمفونية براهمز الأولى هي سمفونية بيتهوفن العاشرة ( بيتهوفن كتب تسع سمفونيات). كم كان ذلك مؤذيا لبراهمز في شبابه وكم كان مؤلماً. هل هي عمل عظيم: لنسمع عمله ولنتلمس ما استلهم من بيتهوفن:
نواصل؛ كان تشايكوفسكي أدرج في افتتاحيته الشهيرة بافتتاحية 1812 النشيد الوطني الفرنسي و الروسي. نستمع؟
نسمع نشيد فرنسا الوطني في الوقت 2:19 ونسمع خلف صوت الألعاب النارية والانتصارات صوت النشيط الوطني الروسي في الوقت5:14:
أما الاستعارة من الفلكلور جملاً وإيقاعاً و ما شابه، من فلكلور بلد المؤلف أو من خارجه، من الغناء الديني أو الريفي، فحدث ولا حرج. خذ من القديم إلى الجديد: هاندل في هالالويا و هو بغض النظر عن هذا المثال، أكثر الموسيقيين استعارة واستخداماً لأفكار موسيقية لآخرين من كل نوع بلا منازع. ولنأخذ باخ الذي استعار من ما ذكرنا أعلاه ومن أعمال بعض أفراد عائلته و من نفسه في أعمال سابقة ومن تيليمان ومعاصرين آخرين.
ولقد استعار أبناء باخ من أبيهم واستعار هايدن من مصادر شتى واستعار موزات من هايدن وحوّل سوناتات باخ إلى كونشيرتوهات. وإذا ذهبنا إلى بيتهوفن، فإن ثلث مؤلفاته كانت اشتغالاً على أعمال موسيقية سبقته، وهكذا استعار كل من شوبرت و ستراوس و ماهلر و استعار ديبوسي من أوبرا فاغنر. وهكذا استعار فاغنر و مندلسنون و استعار بيلا بارتوك و سطان كوداي اللذين بنيا كثيراً من أعمالهما من بحوثهما واستقصائهما للفلكلور وموسيقى الشعوب و هكذا فعل كبار مؤلفي القرن العشرين. ثم وصلنا إلى ما آل إليه الحال وتضخم مع ظهور الموسيقى الشعبية والشائعة في الغرب و شاعت في كل أنحاء العالم مع سهولة النسخ والتوزيع والسفر والتواصل بين كل بني البشر.
هالالويا لهاندل:
موسيقى الرقصات الرومانية لبيلا بارتوك:
سلطان كوداي : رقصات جالانتا
ليس هذا يمثل طوبولوجيا شاملة لانتقال الأفكار أفقياً وعمودياً، عبر الزمان والمكان بين المؤلفين الموسيقيين و الموسيقيين عموماً، تأليفاً وتوزيعاً وتفسيراً وأداء. سيكون من الممتع والمفيد رسم طوبولوجيا شاملة مفصلة و بالتحليل يقدم دراسة لظاهرة استخدامات الموسيقى المتنوعة ووسائل الإبداع والنسخ وإعادة الإنتاج - ليس ذلك بصعب في زمننا هذا!
الانطباع الذي نخرج به من هذا الاستعراض، هو أن هذه الظاهرة، كانت منذ البدايات، صيغة رائجة ومعتبرة وأساسية بين الموسيقيين وعلامة من علامات الإبداع والصناعة والخلق الجديد في الموسيقى بشتى صنوفها. ثم تدريجياً، أصبح الجو خانقاً لدرجة أن ترفع قضية على مؤلف استخدم ثانيتين تتكونان من 3 نوتات موسيقية استعارة من عمل آخر و حسب. وعندما انتهت المحاكمة، كانت انتهت بكسب القضية!
لقد كانت عرفاً وثقافة متبعة في الموسيقى وسائر الفنون مع فارق الاستشهاد والتعقيد وتبيين المصدر وحيرة القانون إزاء كل ذلك. هناك من يدعي أن لا أصالة يمكن الاشارة إليها في أي عمل كان و إنما هي تراكمات جهود المؤلفين على شغل من سبقهم وتجديداً من أبناء الحاضر – كمقولة ليس تحت الشمس من جديد؛ وهناك من يتطرف في الجانب الآخر. هل كل ما انتج من موسيقى كما رأينا أعلاه، رائع، مبهر جديد يستحق أن يخلد أم هو كله مسخ وتقليد وقص ولصق وتغليف؟
لنحسن النظر قليلاً ونقرأ في بعض تقنيات التأليف الموسيقي التي كانت ومازالت تستخدم في أطر الموسيقى الكلاسيكية.
من تقنيات التأليف الموسيقي
الثيمة و التنويعات (Theme and Variations): وهي نوع من أنواع كثر من التنويعات من بينها غراند باص و باساكاليا و الكاكون. الثيمة والتنويعات هذه قطعة موسيقية يشترط فيها أن يختار المؤلف ثيمة سبق أن وجدها في عمل سابق أو فلكلور يستعرضها ثم يظهر قدراته على تصميم تنويعات وتشكيلات منها ذات صبغة مبهرة. مثال هذه القطع هو ما قدمه موزارت في موسيقاه الشهيرة التي نسميها اليوم باسم تونكل توينكل ليتل ستار Twinkle Twinkle Little Star وهي مشتقة من فلكلور فرنسي باسم Ah! vous dirai-je, Maman وقد اخذ موزارت الثيمة و جعل ما يتلوها 12 تنويعا عليها. نستمع؟
يذكر عن بيتهوفن – كما تمت الاشارة أعلاه – انه في شبابه كان يأخذ ثيمة من موسيقى من سبقه، ويترك العنان لقدرته يتعلم فنون التأليف والإبداع والتجديد بعمل التنويعات. لنستمتع لبعض أعماله في التنويعات:
32 تنويعا على C ماينر:
12 تنويعا لبيتهوفن على ثيمة لهاندل:
ها هي موسيقى هاندل هنا:
7 تنويعات لبيتهوفن على ثيمة من موزارت في الناي السحري:
و هاهو مقطع موزارت من الناي السحري:
الاستيلاء | المناسبة | التطويع (Appropriation): وهو أخذ بعض العناصر الموسيقية واستخدامها لصناعة قطعة موسيقية جديدة. ذلك يشمل الجمل الموسيقية والإيقاعات والآلات والثيمات والأشكال وهكذا. وهناك جدل كبير حول هذا الموضوع يدور حول المناسبة | الاستيلاء من عدة نواح بعضها يخص أخذ عناصر من أمم أخرى وفلكلور واستخدامها في أعمال لأمم "أرقى" منها أو أعمال راقية بعد أن كانت شعبية – هذا جدلهم – أو ما يسمونه بالإنحدار الثقافي أو تخريب الذوق و تذويب الهوية. على عكس ذلك، هناك مثال من ذلك ما صنع الأمريكان من أجل تقديم هوية جديدة لموسيقاهم الكلاسيكية أو الشعبية الشائعة من أخذ ملامح الجاز والبلوز و مناسبتها بحيث في النهاية أصبحت جزءا متأصلا من شخصية موسيقاهم. هناك استيلاء – و مناسبة - قد لا يصل لهذا الحد وقد يكون يختص ببعض العناصر من أجل قطعة موسيقية محددة.
لنستمع إلى هذا المثال وهو للمؤلف الأمريكي تشارلز إيفز يطوع فيه الربع توع على البيانو:
ميبوبوي لسيليمون ليندا:
تذكرون الأسد الملك؟:
التجميع – جمع العينات (Sampling): وهو استخلاص عينة موسيقية واستخدامها كقطعة بشكل ما أو كآلة موسيقية في قطعة موسيقية جديدة. ولقد شاع هذا النوع من العمل مع ظهور التسجيل والأجهزة الصوتية وبرامج تحرير الصوتيات المتطورة. و منه أنواع كثيرة منها تكوين حلقات loops أو صنع صوت آلة جديدة. لنتابع بعضاً من الأمثلة هنا من الموسيقى الشائعة Pop
ثم هناك إعادة المزج Remix وهو أن نعيد تقديم عمل بإخراج جديد والكولاج والخلط Mashup و هو أن نخلط مجموعة أعمال لتشكل معاً عملاً جديداً متجانساً. و هناك تقنيات أخرى قديماً وحديثاً؛ لكننا قد استوعبنا الآن الصورة و رأينا الأمثلة وربما أضاء لنا هذا شئ على نوع العمل الموسيقي الناتج من هذه التقنيات ومقدار الجهد والتجديد في كل منها.. وليس في هذا كل سبيل للخروج من مأزق الجدل.
القانون والإبداع
هناك تحدّ دائماً ما حضر أمام القانون وهو عدم القدرة على اشتشراف مستقبل التقينات، منذ زمن طباعة النوتة الموسيقية وصولاً لعصر التسجيلات والاسطوانات إلى عصر الانترنت وتقدم التقنية و وسائل العمل في مجال الموسيقى تأليفاً وانتاجاً عموماً ونشراً وتداولاً. القانون لم يعد يستطيع تصور مختلف تبعات وإمكانيات هذه التقنيات أو عمل شئ من أجل معرفة الحق مع من، وليست كل القضايا المرفوعة أو المسكوت عنها والخفية، في المتناول السهل. لقد كان أفلاطون قد طلب من الحكام بعدم السماح بأي تبديل أو تغيير في الموسيقى اليونانية فهي تعكس كمال الكون و هي تلامس العقل، وإما تم التلاعب بها، فقد يتعدى ذلك من العقل إلى المشاعر والأحاسيس وبالتالي يجلب على الإنسان الخطر. ولقد تكرر شخص أفلاطون على مر العصور ولو بأشكال أخرى في مختلف أنواع الموسيقى.
أما في الحضارة الرومانية، فكان هناك تشجيع على كتابة النوتة الموسيقية لحفظ الموسيقى وكان هناك تشجيع من الكنيسة لكتابة الموسيقى الدينية كنوتة حفظاً لها من التغيير ولكي يتم إلقاؤها كما هي شكليا بحذافيرها (توحيدها) دون أي تغيير أو تبديل. ولم تبق تلك النوتة الموسيقية كما هي، إذ تراجع الاهتمام بها وعادت للظهور تدريجيا فيما بعد في القرن السابع عشر بعد أن كانت ظهرت في القرن التاسع بادئ الأمر.
بقي أمثال أفلاطون حتى يومنا هذا، ففي الوقت الذي بدأ يروج فن الجاز في أمريكا، كان هناك من يذم الحال ويقول أن ذلك مفسدة للعرق الأبيض باستخدام موسيقى السود – النيجرو - الأدنى درجة!
القانونيون يحاولون الاستفادة من 2000 عام من تاريخ الموسيقى الحافل بمثل هذه الممارسات لكن الأمر كما أشرنا ليس بالسهولة التي نتمنى.
إن الاستعارة الموسيقية كانت دوماً اسلوباً لتعلم الجيل الجديد من أساتذتهم ومن سابقيهم حتى يتقنوا المهنة والمهارة في التأليف. لم تكن الاستعارة في سالف العصور حتى عهد قريب وسيلة تعلم، بل وسيلة رائجة وناجعة للتأليف وانتاج الجديد.
ويروي أحد المختصين في الموسيقى المعاصرين، حادثة تقديم تأليف موسيقي إلى استاذه كان ألفه بنفسه، فما كان من استاذه إلى فضحه أمام الجميع واتهمه بالسرقة. ولقد كان تأثر بشكل غير مباشر بأغنية شائعة، وإذا بالاستاذ نفسه يقترح عليه أن يعنونها بعنوان إهداء إلى مؤلفها، فتتغير المعايير وتصبح حالة لا سرقة فيها. هي ذات القطعة الموسيقية!
كانت محاولات إصدار قانون لحقوق النشر والتأليف كما ذكرنا تتعلق بالطباعة والكتب وكانت البوادر ظهرت حدود 1500م. ثم كان قانون النشر الشهير قد ظهر عام 1710م وتم تطبيقه على نشر الموسيقى ( النوتة الموسيقية ) عام 1777م حيث يبقى للمؤلف حق مع كل نسخة مطبوعة مباعة و للناشر. ومع مرور الوقت وصولاً ليومنا هذا، أصبح الموضوع أكثر تعقيداً من التصريح والرخصة للعزف وإقامة الحفلات إلى أن وصل إلى مستوى "ذري" من الحقوق تتعلق تقريباً بكل شئ في الانتاج الموسيقي. ثم جاء عصر العينات وتحولت مهارة صناعة فن راق إلى سرقة. ولقد ضاق الخناق الآن على المؤلفين الذين يكتنفهم الخوف من وصفهم بالسارقين وأصبح شغل الملحنين والمؤلفين الشاغل هو أخذ رخصة قانونية من زملائهم أو اليأس ممن لا يصلون لهم، رخصة على كل شئ حتى لو كان في حجم ذري لا يتعدى ثانية أو نوتة أو تأثيراً موسيقيا ضئيلاً. ربما وصل الحال إلى قتل أي تجديد أو إبداع. تخيل أنك مؤلف موسيقي تقف أمام المحكمة لتدافع عن نوتة موسيقية واحدة اتهمت بسرقتها من عمل لم تسمعه!
لقد كانت حقوق النشر محفوظة لمؤلفها المسجل في قانون النشر في حتى عام 1978، تحفظ له حقه 28 عاماً منذ تسجيله إياه ثم يجدد لـ 28 عاماً أخرى. ثم تطور الأمر ليحفظ الحق إلى 70 عاماً بعد وفاة المؤلف أو 95 عاماً لو كانت الحقوق لشركة مثل ديزني! كيف لمؤلف موسيقي في حال كهذه أن يتأثر أو يوظف أو يخلق جديداً من عمل وضعت عليه كل هذه القيود؟ هل أصبح "التأليف" "تفكيكا"؟ هكذا تقول جينيفر جينكنز في حديثها عن معضلة قانون الموسيقى وحال الإبداع.
إلى أين نحن متجهون؟
المدافعون عن هاندل، يقولون أنه صنع فناً لم يكن ليصنعه ولا يمكن التخلي عنه عندما قلّد في البدء و شكّل وغيّر وطوّر. لم ينتج فناً من هذه الفئة وحسب وبهذه التقنيات في التأليف، لكن متذوقي الموسيقى ليسوا مستعدين عن التخلي عن هذا الكم الهائل من الأعمال الموسيقية له ولغيره والتي تلوح جدة وغزارة وغنى وجديداً. هناك موسيقى أنجزت بالطرق المذكورة وشبيهاتها، وهناك موسيقى أنجزت بشكل مختلف. وإن هناك موسيقى عظيمة وموسيقى أخرى ليست كذلك فيما أنتج بطريقة الاستعارة أو بطرق أخرى.
هناك من قال بأن الموهبة لا تسرق، لكنه ظل حالماً. إنما هو في النهاية إنتاج موسيقي يمكن أن يتبناه أحدهم سرقة أو توظيفا أو تجديداً. هناك معضلة في الاعتراف بالمصدر الأصل، أو طريقة للاستشهاد كما في الكتابة ونسبة الأفكار والجمل إلى أصحابها – و الكتابة ليست بعيدة عن جدل السرقات وليست بالسهولة التي نتصور، بالمناسبة. هناك ما هو بين السرقة مع قلة الجهد والحظ وهناك ما هو مستلهم من قديم أو معاصر، وهناك ما قد انجز بوسائل أخرى ألفها عباقرة كل عصر حتى يومنا هذا.
معضلة الموسيقى و استخداماتها التي لم يصل بنا القانون إلى معيار يسهل علينا التمييز بين الشرعي منها وغير الشرعي، هي معضلة باقية في عالمنا العربي و في أنحاء العالم كله. وها هو زمن أصبحت كل الشعوب تتواصل مع بعضها والمشتغلين يتواصلون مع بعضهم البعض بشتى الوسائل ويتأثرون. هكذا يزداد الأمر تعقيداً على القانون والمتابعة والملاحقة مع تطور التقنية والوسائل. كل هذا يحدث في زمن تذوب فيه الهويات في الموسيقى وتتمازج ويخشى أن لا يصبح لكل وطن فنه. الخوف على أشده والاتهامات والقانونيون لا يتحركون بالسرعة المطلوبة. نحن في حاجة ماسة إلى إعادة هندسة القوانين حفاظاً على الإنتاج الموسيقي العظيم. هذه هي الحكاية البسيطة في موضوع غاية في التعقيد.
ملحق::. فاضل التركي
أترجم لكم نصين بخصوص حقوق الطبع والنشر والملكية الفكرية من كتاب فهم الموسيقى للدكتور جيريمي يودكين:
كتب د. جيرمي يودكين في كتابه "فهم الموسيقى” عن حقوق النشر والطبع:
“قبل انعقاد أول اتفاق دولي في مسألة حقوق الطبع والنشر في بيرن في سويسرا عام 1886م، كانت أعمال – النوتات الموسيقية - المؤلفين الموسيقيين غير محمية. لم يكن باستطاعة الموسيقيين المشهورين عمل شئ لوقف 'قرصنة' طبعات أعمالهم المنتشرة. الناشرون بلا ذمة؛ بمجرد أن تقع في أيديهم نسخة من عمل، يقومون بطباعتها و بيع النسخ. في بيرن، كان هناك مبدأ أولي تم تأسيسه. المبدأ يقول، أن أي عمل منشور – ويشمل ذلك الأعمال الموسيقية – فإنه محميٌ بموجب حقوق الطبع والنشر في حياة مؤلفه و إلى بعد وفاته بخمسين سنة. هذا المبدأ ظل هكذا بلا تغيير حتى يومنا هذا. و إضافة إلى ذلك، فإنه بالنسبة للأعمال الموسقية، يجب دفع مبلغ من المال لكل مرة يتم عزف عمل ما سواء كان ذلك على الهواء – مباشرا – أو مسجلا"
ثم يكتب يودكن عن حقوق الملكية والطبع والنشر بخصوص الموسيقى الشائعة "بوب”:
“على مدار القرن التاسع عشر وحتى 1914م، لم تغط قوانين الطبع والنشر، حقوق أداء قطعة موسيقية. لقد كان يتسلم الناشر والمؤلف حقوقهم على مبيعات الموسيقى المطبوعة؛ ولا يستلمون أي شئ مقابل أي قطعة موسيقية لهم تعزف أو تغنى”. وقد عولجت هذه القضية عام 1914م إذ أسست جمعية المؤلفين الموسيقيين الأمريكان والمؤلفين والناشرين (آسكاب) (ASCAP). وكلما عزفت قطعة أو غنيت أغنية في قاعة رقص أو ناد ليلي أو فندق أو مطعم، وكلما شُغِّل تسجيل في الإذاعة، يتم دفع حقوق لكل من المؤلف الموسيقي والناشر. في 1940م، كانت غالبية الشبكات والإذاعات تدفع حقوقاً لآسكاب وصلت مبلغاً قدره 4.5 مليون دولار سنوياً وكانت هذه الأموال توزع على أعضاء آسكاب. في هذا الوقت، كان هناك منظمة منافسة هي بي إم آي قد تم تأسيسها وكان الهدف هو توفير حقوق طبع ونشر للمؤلفين الموسيقيين والناشرين للموسيقى الشائعة "بوب”. و كل فرد يعمل في صناعة الموسيقى اليوم، سيكون محمياً بإحدى هاتين المنظمتين. في عام 2000م، جمعت آسكاب مبلغاً قدره 576 مليون دولار لأعضائها، أما بي إم آي، فقد جمعة مبلغاً قدره 400 مليون دولار. أما هذه الأيام، فقد أصبحت مسألة حقوق الطبع و النشر محل تحدّ مع زيادة و انتشار تبادل ومشاركة الملفات و التحميل الغير مدفوع الثمن على الانترنت"
مصادر:
1. Understanding Music by Jeremy Yudkin
2. http://en.wikipedia.org/wiki/Appropriation_%28music%29
3. http://en.wikipedia.org/wiki/Sampling_%28music%29
4. http://blog.mises.org/13476/musical-borrowings-from-bach-to-hip-hop/
5. http://www.youtube.com/watch?v=gKX25MRggEk
6. http://dspace.nitle.org/bitstream/handle/10090/8396/murray%20-%20thesis%20-%2009.pdf
7. http://en.wikipedia.org/wiki/Variation_(music)#cite_note-0
8. http://en.wikipedia.org/wiki/Copyright
بحث شامل يجذر فكرة تطور الموسيقى كفن من الفنون الإنسانية عبر الأجيال ويؤكد ألمثل القديم "من فات قديمه تاه" .. نعم الفن رأسيا وتاريخيا لا يأتى من فراغ ولا يتفرع ولا يثمر دون جذور .. ثم أفقيا وجغرافيا لا تعرف الموسيقى حدودا أو حواجز . ذلك أنها ترتبط مباشرة بالشعور الإنسانى الأصيل والذى يتفق فيه جميع البشر بجميع ألوانهم وانتماءاتهم ، ولذلك قيل دوما أن الموسيقى "لغة عالمية" .. لا تحتاج لترجمة
ردحذفهذا النمو وهذه الحركة تشترك فيهما موسيقى الشرق والغرب على السواء ، استلهاما للتراث الإنسانى وتفاعلا مع الحياة على ظهر الكوكب أينما كانت وكيفما تلونت ..
شكرا جزيلا للأستاذ فاضل التركى لهذا الإشعاع الراقى ..
العزيز الدكتور أسامة عفيفي ..
حذفيسعدني يزخرف ما كتبت تعليق منك وأنت المحب العاشق لكل الموسيقى عربية وغير عربية ..
ونعم .. الموسيقى علم وصل به الحد أن استقل بنفسه ليعني شيئا ملموسا أو يصيغ جمالا قد لا يلمس الواقع .. وهو في ذات الوقت تحفة ملهاة للعقل ومصقلة للذهن والذوق ..
هذا رغم كل محاولات التحديث التي نالت بعض الشئ من رقي هذا الفن وأخرجت لنا بعض ما نسب للموسقى وهو ليس بالموسيقى.
لك ألف شكر على القراءة والمتابعة أيها العزيز وكن بخير ولا عدمنا خيراتك في الفكر والموسيقى
لى تعليق على المثال الذى أورده الأستاذ فاضل فى هذا المقال بعنوان "المؤلف الأمريكي تشارلز إيفز يطوع الربع تون على البيانو" ..
ردحذفلا أدرى إن كان هذا المقطع هو كل العمل أم جزء منه ، لكنى سأذكر تعليقى على ما استمعت إليه هنا
* رأيى أن ما نستمع إليه هنا قد يكون عملا "موسيقيا" بمعنى استخدام أصوات صادرة عن آلة موسيقية ، لكنه ليس فى الحقيقة عملا "فنيا" بأى مقياس .. إذ أنه لا يوحى بأى "فن" على الإطلاق ..
* النغمات مستفزة خالية من الخيال ممعنة فى التفكك والفوضى
* لا يكاد العزف يستقر على مقام ما ، بل على العكس يكسر كل قواعد التناغم لدرجة استخدام النشاز أحيانا
* لاحظ أن العازف يجد صعوبة شديدة فى العزف ناتجة ليس فقط عن عدم الانسجام بين الجمل والمقاطع والأصوات بل يبدو أنه يواجه صعوبة فى الاقتناع أصلا بما يعزفه لخلوه تماما من المنطق ، بالتالى ينتقل هذا الشعور للسامع فيثير لديه الرغبة فى الكف عن مواصلة الاستماع
* إن نغمة الربع تون التى لا نسمعها بوضوح إلا لمرة واحدة عند الدقيقة 3.00 تقريبا لا علاقة لها ببقية النغمات ، ثم إنها تأتى منفردة كمونوفون لثانية واحدة دون بذل أى جهد لإدماجها فى هارمونى مع الأصوات الأخرى ، وربما كان للمؤلف عذر فى ذلك فقد خلت الموسيقى من أى هارمونى جدير بالانتباه
* باختصار هذه ليست موسيقى!!
تحياتى ..
أهلا بك د. أسامة مجدداً..
حذفهذا جزء من العمل و يعتبر هذا المؤلف الموسيقي من أوائل المؤلفين الموسيقيين الذين حاولوا صنع هوية للموسيقى الأمريكية الكلاسيكية. وقد أتى هذا الرجل في زمن التجريب ومحاولة التحديث والذي اخرج لنا عجبا عجابا رائعا وموسيقى غير مستساغة في ذات الوقت. لقد جاء فريق شوينبرغ وآخرون بسلالم مختلفة وموسيقى حاسوبية تحاول أن تتخطى الحواجز وتسارع في تغيير وجه الموسيقى أسوة بالعصور الماضية .. لكن بقي شئ من تجاربهم مدهش و ضاع الماضي نسيه التاريخ ..
بالمناسبة، كان وضعي للمثال هذا - قيد النقاش - بالتحديد لسبب واحد هو فكرة التبني - الاستيلاء - المناسبة - التطويع و سبب اختياره هو ربع التون. وهناك أمثلة ناجحة موسيقية مثل كسارة البندق لتشايكوفسكي
كن بخير ودمت راقيا
فاضل التركي
أود الإشارة إلى أن تحديد امتداد حقوق النشر للمؤلف بـ 70 عاما بعد وفاة المؤلف هو بموحب القانون الأمريكى السارى داخل الولايات المتحدة فقط وعلى المؤلفين الأمريكان ، أغلب دول العالم تحدده بـ 50 عاما بما فيها فرتسا الراعية لجمعية حقوق المؤلفين والملحنين الدولية والتى يتبع نظامها الدول العربية يصبح بعدها العمل ملكية عامة .. على سبيل المثال ألحان سيد درويش الذى توفى عام 1923 سقطت عنها حقوق المؤلف قانونيا عام 1973 وأصبح القضاء لا ينظر دعاوى حقوق الملكية من قبل الورثة بعد ذلك التاريخ .. تحياتى
ردحذفملاحظة: سقوط الحق القانونى لا يمنع إدانة أعمال السطو والسرقة من الناحية الأدبية من قبل أى هيئة فنية ، الفرق أنه لا تستحق تعويضات مادية ..
حذفأهلا بك الدكتور عفيفي. نعم، شكرا لتوضيح هذه النقطة حتى لا يسعد الذين يفضلون السطو والنسبة إلى الذات أعمال العظماء.
ردحذفشكرا لك وكن بخير