نشر في المستقبل الكويتية
قد يتخيل المستمع إلى الموسيقى، أن المؤلف الموسيقي يكتب ما تمليه عليه ذائقته و تأخذه إليه حدود إبداعه، هكذا بلا قيود. يتخيل المستمع أنه ما عليه إلا أن يرخي عنان مسامعه للعمل ويمتع عقله وحواسه. بيد أن أحد أسرار الدهشة والاستمتاع والتلذذ بالموسيقى، أن يأتي المؤلف إلى أرضية مشتركة بينه وبين مستمعيه، ويحلق منها إلى عوالم عليا جديدة غير معهودة.
و حديثاً عن المؤلفين الموسيقيين الذين يشتعلون جدّةً على الدوام، فإن المؤلف الموسيقي يعمد إلى طرائق عدة، حتى يستطعم المستمعُ هذا العمل الجديد. من البديهي مثلاً أن يستخدم المؤلف مقامات موسيقية خبرتها أذن المستمع من الثقافة المحيطة وتربى في ظلها. وإذا لم يكن الأمر كذلك، كأن يحاول المستمع أن يستمع إلى موسيقى الشعوب الأخرى، فإن عليه أن يربي ذائقته على فهم هذه اللغة الجديدة (موسيقى الشعوب الأخرى) بكلماتها و نحوها و بلاغتها و سحرها الخاص. ومن البديهي أن يستخدم المؤلف إيقاعات معهودة، ثم يبني عليها وعلى المقامات، وعلى الآلات المعهودة أيضاً، جمله البديعة وصيغه الجديدة. لو غادر هذه الأرضية، فعليه أن يمهد أرضية من نوع آخر. من الطرائق التي يعمد إليها المؤلف لبسط هذه الأرضية المشتركة، إن بدأ بكلمة موسيقية جديدة صقلها للتوّ، أو جملة صاغها، غير معتادة، أن يستخدم التكرار. أن يكرر الكلمة والجملة، تكراراً حرفياً. ومن الطرائق أن يعمد إلى صيغة التقليد، كأن تقول الجملة آلة فتعيدها آلة آخرى أو تعيدها الفرقة أو ذات الآلة في مكان أخفض أو أعلى. و قد يوظف المؤلف التنويع، فيقول الجملة الموسيقية عادية مرة، أو مرنمة مرة، أو مزخرفة مرة، أوسريعة مرة، أو بإضافات مدهشة مرة أو أكثر.
قد يخلق بعض المؤلفين أرضية مشتركة بالصيغة الكلية للعمل. والصيغة هنا هي الشكل، فيقسم مثلاً العمل إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول هو فكرة أساسية، ثم يلي ذلك تحول وتبدّلٌ وتطورٌ، ثم يليه الختامُ. وكثر استخدام هذا الشكل الثلاثي كثيراً في الموسيقى، وهو يبعث على ثقة من المستمع أنه يعرف طريقه، مهما تمادى المؤلف غوراً في التجديد في داخل هذه التقسمية الثلاثية. وقد يكون العمل أكثر تعقيداً إذ هو مكون من أربعة أقسام مثلاً، لكن داخل كل قسم من هذه الأقسام، صيغة (داخلية) مختلفة عن كل صيغة في كل قسم آخر؛ ورغم ذلك، يظل المسمتع يعرف طريقه في الغابة الجديدة. وفي حينٍ لا يريد فيه المؤلف الالتزام بصيغة مهما كانت بسيطة أو معقدة، فإنه يلجأ إلى أرضية من نوع آخر، كأن يهيئ حبكة تسير عليها الحكاية الموسيقية، أو ينشئ موسيقاه على عمل أدبي أو أسطوري يمسك بخيوطه كل جديدٍ.
هذه مجرد أمثلة للطرائق التي يزود بها المؤلف المسمتع بخريطة للغابة الجديدة التي كثّفها وأثثها، ويريد للمسمتع أن يتخيّر له طريقاً فيها من طرق شتى، يتجوّل و يستكشف ويستلهم ويعيش تجربة جديدة. وفي الوقت الذي حاول بعض المؤلفين تجاوز هذه الأرضية، أو حاول بعض المستمعين التقليل من شأنها – مثل سماعه لموسيقى شعوب أخرى ذات أنظمة موسيقية أخرى، كان العمل الموسيقي بلا حظ. وفي وقت استسهل فيه من يشتغل في الموسيقى بالتأليف والتلحين، ولم تسعفهم الخبرات ولا المعرفة ولا الإمكانيات، وظنوا أنهم مبدعون بالفطرة، فسيكون نصيب المستمع غابات محترقة، أوشجيرات جافة وكسر هنا وهناك. و ربما أسعف هذا المؤلف زفاف الإعلام و تجييش أصوات الجماهير وبرمجتهم، وصناعة الميديا للأسماء وتصدر الألبومات؛ لتحظى قطعته الموسيقية بعمر أسبوع أو أسبوعين، ولا يبقى منها في الذاكرة الموسيقية بعدها أي أثر. وإذا كان المستمع قد جَبَلَ نفسه على تخيّر التجارب الموسيقية التي يريد أن يعيشها، و ربىّ ذائقته الموسيقية على الجديد الذي يستحق السماع، من أي أرض ومن كل صنف، فسيكتب في سجلّه الحافل أمتع الرحلات.
::. فاضل التركي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق