نلاحظ أحيانا أن هناك أركسترات تعزف بدون وجود مايسترو، ذلك يكون في حالة لو أن الأوركسترا كان صغيراً كأن يكون أوركسترا وتري أو أوركسترا وتري مضافا له بعض آلات النفخ (مثل أوركسترا موتسارت)، في هذه الحالة ينوب عن المايسترو عازف الكمان الأول في الأوركسترا والذي يسمى كونسيرتماستر concertmaster or Leader أو كما يحلو للبضع تسميته بالعربية (رائد الأوركسترا)، هذا العازف هو من يعطي الإيعاز بالبدء والنهاية ولو حصل تغيير في السرع وشدة الصوت وخفوته فهو من يكون مسؤولا عن ذلك في حركات منه بواسطة كمانه وذلك أثناء العزف (ولو كان عازف البيانو أو الهاربسيكورد هو من ينوب عن المايسترو فهو يقود الأوركسترا بيديه حينما تكون لديه سكتة أو برأسه حينما يكون منهمكا في العزف).
أحيانا يتولى عازف السولو القيادة لو كان العمل كونشيرتو كأن يكون كونشيرتو الكمان والأوركسترا (على سبيل المثال)، لكن ذلك لا يمكن أن يحدث في أعمال موسيقية كبيرة ومعقدة، فلا يمكن أن يحل عازف السولو بديلا عن المايسترو في كونشيرتو مثل كونشيرتو سيبيليوس أو تشايكوفسكي للكمان والأوركسترا بسبب أن النوتة المكتوبة للكمان هي صعبة جدا ولا تسمح لعازف السولو بالانشغال بالقيادة، لكن في أعمال أقل تعقيدا مثل بعض كونشيرتات موتسارت فذلك ممكن وهذا هو السبب أننا نجد في بعض كونشيرتات موتسارت للكمان والأوركسترا (على سبيل المثال) يتولى عازف السولو القيادة، سبب ذلك هو أن في بعض أعمال موتسارت أو هايدن لا توجد تعقيدات كثيرة.
هذه هي موسيقى مسائية صغيرة تعزف بدون مايسترو.
وهذا كونشيرتو لموتسارت للكمان والأوركسترا يقود العمل عازفة السولو الشهيرة آننا صوفي موتتر بدون وجود أي مايسترو.
نلاحظ في الفيديو أعلاه وفي بدء الموضوع الثاني في الدقيقة 0:33 حصل تبطيء بسيط في السرعة بين الموضوعين، هذا أيضا من مهام المايسترو (أو من ينوب عنه) فموتسارت لم يكتب أي تبطيء هنا، والتبطيء البسيط هنا ضروري لتوضيح الفارق بين اللحنين الأول والثاني (المضاد له).
هل أن واجب المايسترو في الحفلات يكون تمثيلا مسرحيا؟
يستحسن إعادة السؤال ليكون:
هل أن واجب المايسترو هو فقط في البروفات ولا تكون له أي أهمية أثناء العزف في الحفلة أو الكونسيرت ووجوده استعراضيا فقط؟
تكون مهمة المايسترو في الكونسيرت أو الحفلة أكثر صعوبة من البروفات، حيث أنه سيحتاج لتركيزه بالكامل وسوف يحتاج لمجهود أكبر، وربما أعلى مما كان يبذله في البروفات. السبب هو أنه لو حصلت هفوة أو خطأ أو خلل أو مشكلة موسيقية في البروفات فإن المايسترو يتمكن من أيقاف العزف ويقوم بحل المشكلة أو الخلل، لكن لو حصلت مثل هذه المشكلة في الكونسيرت فلا يمكن بتاتاً للمايسترو أن يوقف العزف أمام الجمهور بل يجب أن يتجاهلها وأن لا يظهر ذلك على وجهه لكي لا يلاحظ الجمهور الخطأ، لنتذكر بأن الجمهور يأتي للكونسيرت لكي يستمتع بسماع الموسيقى ولم يأتي لكي يشاهد تصحيح أخطاء الأوركسترا.
قبل فترة كنت جالسا في عرض موسيقي لأوركسترا محترف معروف، كانوا يعزفون سيمفونية دفورجاك الثامنة، حينما بدأوا العزف كانت هناك مصاحبة هارمونية من قبل بعض آلات النفخ (الترومبون الأول والثاني والفاجوت)، صدرت بعض الأصوات التي لم تكن متناسقة هارمونيا تناسقا تاماً، ربما لم يحس أحدا من الجمهور بذلك لكن وقعها كان سيئا علي لأنني كنت أستمع للموسقى بتركيز عالي، أنا أو أي موسيقي له خبرة طويلة في الأوركسترا أو يعرف عن علم الآلات أو Orchestration سوف يعرف السبب! السبب كان يكمن في أن آلات النفخ لم تكن جاهزة للعزف حيث أن الأوركسترا بقيت جالسة فترة طويلة في انتظار أن يبدأوا العزف ما سبب أن تكون آلات النفخ باردة وليست جاهزة، لكن بعد ثواني قلائل انتظم العزف ولم أعد أسمع أيا من تلك النوتات غير المتناسقة.
في الحركة الثالثة من نفس السيمفونية حصل خللا إيقاعيا بسيطا في مكان ما بين الكمان الأول والفيولا، وفي الإعادة حصل نفس الخلل لكن بصورة أخف، كان الخلل في الصفوف الخلفية من آلات الفيولا. لم يكن باستطاعة المايسترو إيقاف العمل ليصحح المشكلة لأنهم يعزفون في كونسيرت وأمام جمهور، لكن لو حصل ذلك في البروفة فلابد وبالتأكيد سوف يوقفهم المايسترو ليصحح الخطأ ويعالج المشكلة، ربما تكمن وراء تغيير حتمي في القوس. بالمناسبة فأكثر الأوركسترات شهرة في العالم معرضة لحدوث خطأ أو خلل صغير على المسرح لأن العازفين هم من البشر، حتى أعظم السوليستات ممكن أن يخطأ، لكن يجب أن لا يتوقف أبدا مهما حصل.
نلاحظ في هذا الفيديو حصل نفس الخلل الإيقاعي في نفس المكان، هذا هو أوركسترا شباب، ممكن ملاحظة الخلل الذي قصدته في مؤشر الوقت 0:38 أرجو ملاحظة الكمان الثاني والفيولا حينما يدخلون بعد الكمان الأول (الفيولا والكمان الثاني يجلسون إلى يمين المايستر أو على يمين المسرح). نلاحظ في الإعادة كان الخلل أقل بكثير جدا وهو في مؤشر الوقت 4:07، نلاحظ كيف أن المايسترو يحاول معالجة المشكلة في أن يغير إشارة يده في القيادة من إعطاء إشارة ضربة لكل بار وقبل ذلك المكان يغير الإشارة لتصبح ثلاث ضربات لكل بار لكي يؤكد الإيقاع.
نلاحظ أن عزف الأوركسترا في الفيديوا أعلاه ليس مرضيا ومشبعا وذلك سببه أنه أوركسترا شباب وليس محترفين.
لنأخذ مثالا آخر ومع أوركسترا شبابي آخر تعزف الحركة الأولى من نفس السيمفونية
ولنقارن مع أوركسترا فيينا فيلهارمونيك ومع المايسترر العظيم كارايان
نلاحظ في التسجيل الأول أن المايسترو يبدأ بقيادة الحركة بإعطاء أربع إشارة من أربع ضربات للبار الواحد بينما كاريان يعطي إشارة ضربتين للبار الواحد، السبب في أن المايسترو الأول يعطي أربع ضربات للبار هو لكي يشد إيقاع الأوركسترا، لكن كارايان لا يحتاج لأن يفعل ذلك، ولا ننسى الفارق الكبير بين مستوى كلا الأوركستريين، ناهيك عن الفارق الهائل بين مستوى كاريان والمايسترو الآخر.
ملاحظة مهمة، وجه المايسترو غالبا ما يجب أن يعبر عن حالات الموسيقى ويعطي الإيحاء للعازفين أن يكون العزف في هذا المكان بحزن أو بفرح أو بحب وإلى غيره.
ماذا لو أن المايسترو تحول إلى مترونوم بشري؟
علينا أن نعرف أولا ما هو المترونوم:
المترونوم هو جهاز يعطي ضربات إيقاعية منتظمة. يقترن عمل المترونوم بعمل الساعة، أي لو اخترنا للمترونوم أن يعطينا ضربات بسرعة 80 هذا يعني أن المترونوم سوف يعطينا 80 ضربة في الدقيقة الواحدة، كل الضربات متساوية تماما مثل الساعة.
في الجزء الثاني تطرقت في الجزء الثاني كيف تطورت أهمية المايسترو، وذكرت أنه في العصور القديمة كان المايسترو شبيها بعمل المترونوم، حيث أنه كان يعطي الضربات إما بقدمه أو بعصاه على الأرض أو أن يضرب بعصا على طرف الأورجن أو غير ذلك، لكن بعد ذلك أصبح دور المايسترو أكثر أهمية من إعطاء الزمن فقط، وفي العصور اللاحقة للعصر الكلاسيكي أصبح دور المايسترو مهما للغاية وتعدى مرحلة أنه مترونوم بشري.
لو افترضنا أن مايسترو قاد عملا ما بنفس السرعة تماما ولم يجري أي تغيير في السرعة، بالتأكيد لأصبح العمل مملا جدا وجافا للغاية، أي أقرب لعزف الكومبيوتر، أغلب الأعمال لا يكتب المؤلف تغييرات كثيرة في السرعة وهنا يأتي دور المايسترو، عليه أن يعطي الروح للعمل لكي لا تكون مثل عزف الكومبيوتر، أي مستمع يفضل سماع العزف الحي على سماع العزف من الكومبيوتر لأنه يكون رتيبا جدا ولا يحس بالآدمية وهي عنصر هام جدا.
لنشاهد هذا العمل لبنيامين بريتين ومع المايسترو العظيم سايمون ريتل، نلاحظ كيف أن المايسترو أبطأ قليلا في نهاية الجملة في الوقت 0:17، بريتين لم يكتب أي تغيير في الزمن هنا لكن ريتل ارتآى أن يبطئ السرعة قليلا ليوضح انتهاء الجملة الموسيقية وبداية جملة جديدة.
لنشاهد افتتاحية إجمونت لبيتهوفن، كيف أن المايسترو لا يبقي السرعة مثل المترونوم لا في المقدمة البطيئة ولا في الجزء السريع، بيتهوفن لم يكتب أي تغيير في السرعة في المقدمة البطيئة فقط كتبت فوق النوتة الأولى علامة فيرماتا أي أن النوتة طويلة بدون زمن معين وبحسب ذوق المايسترو، كتب بيتهوفن تغييرا واحدا مباشرا في الجزء السريع، نلاحظ أن المايسترو يقود بحرية أماكن كثير من المقدمة أي غير مترونومي أبدا، نلاحظ كيف أن المايسترو يؤخر عزف النوتة الأخيرة في 0:35، بيتهوفن لم يكتب أي تبطيء في هذا المكان. في 2:33 كتب بيتهوفن تغييرا مفاجئا في السرعة لكن المايسترو في هذا التسجيل ارتآى أن يغير السرعة بشكل تدرجي وليس كما كتب بيتهوفن.
نلاحظ في هذا الأوركسترا وهذا المكان بالتحديد أي في 2:15 كيف أن المايسترو هنا يغير السرعة مباشرة وبالضبط كما كتب بيتهوفن حيث كتب "سريع" أو Allegro
لنشاهد المايسترو العظيم ليورنالد برينشتاين يقود الحركة الأولى من ماهلر الرابعة نستطيع أن نشاهد كل التعبيرات الموسيقية في يدي المايسترو وعلى وجهه.
قبل أن أنهي كلامي دعونا نشاهد بروفة أوركسترا مع سايمون راتل.
الكلام يطول ويطول لكنني ارتأيت أن أتوقف عن الكتابة.
لدي سؤال بعد أن كتبت هذا الكلام عن المايسترو في الموسيقى الكلاسيك، من يتصور بأن هناك جدوى من وجود مايسترو لدى الفرق التي تعزف الموسيقى العربية التقليدية، (لا أقصد الأركسترات التي تعزف مؤلفات لمؤلفين عرب)؟
قبل قليل كنت أشاهد قناة عربية وفيها ما يسمونه مايسترو يقف أمام فرقة موسيقية كبيرة ومحترمة جدا، هذا المايسترو لا يعرف كيف تكون إشارة 2/4، أليس هذا مخجلا أن تأتي إشارته مقلوبة؟ لماذا يقف إذاً وما هو واجبه الموسيقي؟ واجبه فقط إداري لا أكثر!
لدي أمل وهو أن يصبح لدينا في كل مدينة عربية أوركسترا احترافي وعدد من أوركسترات الهواة، لكن متى يحصل ذلك؟ لن يحصل إلا بعد أن ينتهي شيء اسمه فقر وجهل في بلاد تعوم على النفط وتنعم بالشمس طوال العام وينتهي الفساد والطغيان عن شعوبنا المسكينة المستضعفة، وحينما يبجلوا الفنان ويعرفون بأنه إنسان أكثر من العادي مثلما يفعلون في الغرب، فقد منحوا لقب سير للمايسترو سايمون رتل، متى يحصل ذلك في بلادنا العربية؟؟!!
ملخص ما سبق:
المايسترو هو من يدير دفة الأوركسترا، وممكن تشبيه المايسترو بمخرج مسرحية عظيمة أو مخرج فيلم عظيم من أفلام هوليود، الكل لا يرى المخرج والذي هو أهم شيء في الفيلم، نفس الشيء فأغلب المتفرجين لا يعرفون مدى أهمية المايسترو ولا يعرفون بأن على كل عازف في الأوركسترا أن لا يغيب المايسترو عن نظره حتى ولو لثانية ولو حصل وأن لم ينتبه أحد في جزء من الثانية للمايسترو وحركاته (خصوصا في أماكن معينة) فممكن أن يرتكب خطأ ويسمعه كل من في الصالة.
لو حصل وأن أخرج مخرجا ما قصة لتصبح فيلما وبعد ذلك أخرج مخرجاً آخراً نفس القصة واستخدم نفس السيناريو المستخدم سابقا سوف نلاحظ بأن هناك فارقا كبيرا بين الفيلمين.
نفس الشيء لو حصل موسيقيا فلو عزفت أوركسترا من الدرجة الأولى عملا معينا وقاد العمل قائد كبير، ثم عزفت نفس الأوركسترا نفس العمل مستخدمة نفس النوتات وقادها أيضا مايسترو آخر بنفس مستوى المايسترو السابق للاحظنا فروقات كبيرة في طريقتي العزف علما بأنها نفس الأوركسترا ونفس العمل ونفس النوتات، هذا يعني أن السبب هو أن لكل مايسترو له رؤية خاصة به (والكلام عن المايسترو من الدرجة فوق العادية).
باختصار شديد لولا وجود المايسترو لأصبح العزف مثل الماكنة السيئة فالمايسترو هو من يضع الروح للعمل.
مع تحيات أحمد الجوادي
أمتعنا الفنان القدير أحمد الجوادى بهذه السلسلة الشيقة والممتعة من حلقات "المايسترو" والتى يندر وجودها فى المكتبة الموسيقية العربية ، مضيفا إلى المعلومات القيمة حسن الأسلوب واللغة الراقية والمنطقية المبسطة التى تشد القارئ إلى موضوعه وتجعله يتطلع إلى المزيد
ردحذفونحن بدورنا نتطلع أيضا إلى المزيد من الموضوعات التى تثرى الثقافة الموسيقية وترتفع بمستواها ونأمل أن يزيدنا بسلاسل جديدة وأفكار منيرة .. تحياتى وشكرى الجزيل
شكرا جزيلا لك صديقي العزيز الدكتور أسامة المحترم
حذفألف شكر لك على تعليقك الجميل وعلى تشجيعك المستمر.
لقد نشرت الآن تكملة الموضوع وهو موضوع عازف السولو المتميز
خالص محبتي/ أحمد الجوادي