عبد الوهاب وأم كلثوم
عام 1964 تم لقاء القمتين محمد عبد الوهاب وأم كلثوم في أول عمل فني مشترك هو إنت عمري ، وانتهت بذلك عقود طويلة من المنافسة بينهما ، وبدأت مرحلة جديدة من إبداعات عبد الوهاب الموسيقية استمرت عشر سنوات
لم يكن اللقاء لا عفويا ولا مخططا له ، فقد بلغ كل منهما من السن والمكانة ما بلغ ، ولم يكن في ذهن أحد أن تلتقي القمتان بعد هذه السنين من الافتراق
كان لافتراق عبد الوهاب وأم كلثوم أسباب كثيرة تندرج جميعها تحت عنوان المنافسة، ومن الناحية الفنية لم يكن هناك مانع فني حقيقي ، فكلاهما يعترف بالآخر على قمته
في تحليل ذلك الموقف يقول موسيقار الإسكندرية محمد عفيفي ، وكان صديقا لمحمد عبد الوهاب وقام بتلحين بعض الأغاني التى لم تسجل لأم كلثوم: "كان عبد الوهاب يخشى صوت أم كلثوم وكانت أم كلثوم تخشى ألحان عبد الوهاب ، هكذا بدت الصورة التي استمرت عشرات السنين ، لم يكن هناك أي شك في نجاح عمل يتمه الاثنان معا لكنها غيرة الفنان ، يخشى الملحن أن ينسب نجاح اللحن لصوت المطربة الكبيرة ، وتخشى هي أن تغطي موسيقى الملحن الكبير على صوتها ، وهكذا دار الاثنان فى حلقة مفرغة"
على أنه قد لاحت هناك فرصة لإنهاء ذلك الموقف بعد اعتزال عبد الوهاب الغناء مباشرة، فقد أصبحت أم كلثوم وحدها على قمة الساحة الغنائية ، وكان باستطاعتها الغناء وبأفضل ما يكون
شخص واحد في مصر استطاع أن يقبض هذه الفرصة ، لم يكن فنانا ولا ناقدا وإنما كان متذوقا للفن وكان أيضا صديقا للاثنين ، وقد أقنعهما بفكرة الاشتراك في عمل واحد من غناء أم كلثوم وتلحين عبد الوهاب وفعلا تم اللقاء الذى سمى بلقاء السحاب في الأغنية الشهيرة "إنت عمري" من كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل عام 1964 ، ولم يكن ذلك الشخص سوى الرئيس جمال عبد الناصر!
إنت عمري - إبداع جديد
لاقت إنت عمري نجاحا منقطع النظير ، وأصبحت على كل لسان منذ اليوم الأول لإذاعتها ، بل إن صداها قد تعدى المنطقة العربية وغنتها بعض الفرق الأوربية خاصة في اليونان ، ودخلت البيوت والمدارس ومعاهد الموسيقى والأندية والمقاهي والصالات وأصبح اللحن المفضل والمطلوب فى أي جمع ، وجن الناس بها جنونا من فرط حلاوتها ، وكان هواة الموسيقى يبدأون تعلم الموسيقى خصيصا ليتعلموا عزف هذه الأغنية ، أما من تعلم الموسيقى قبل ذلك فقد طغى اللحن الجديد على كل ما سبق وأصبحت أصابعه تعزف اللحن تلقائيا كلما سنحت الفرصة
والحقيقة أن هذا النجاح لم يتحقق بصوت أم كلثوم وإنما بموسيقى عبد الوهاب
عند الاستماع إلى المقدمة الموسيقية التي وضعها عبد الوهاب لهذا اللحن نجد فرقا كبيرا بينه وبين كل ما قدمه عبد الوهاب من قبل من ناحية ، ومن ناحية أخرى فرقا على نفس المستوى بين هذه الأغنية وبين كل ما قدمته أم كلثوم
استسلمت أم كلثوم لموسيقى عبد الوهاب ، أو هكذا بدت ، فهى لا تستطيع إلا أن تتقبل نجاحه الذي هو نجاح لها في الوقت ذاته ، وهكذا تبين أن اجتماع القمتين قد أضاف نجاحا إلى نجاح ، وربما ندم الاثنان على تأخرهما في اللقاء طويلا بهذا الشكل
كان رياض السنباطي هو ملحن أم كلثوم الوحيد تقريبا في تلك الفترة ، فقد لحن لها آخرون ولكن ليس في انتظام ولا مقدرة السنباطى ، لكن تأثيره الكبير على الساحة أدى إلى تأثر الملحنين الجدد به ولم يجدوا بدا من التلحين لأم كلثوم على طريقة السنباطي لضمان النجاح ، وكانت أم كلثوم بطبعها ميالة إلى المحافظة كالسنباطي ، وإذا أضفنا لذلك أن السنباطي كان قد أدخل نفسه في سلسلة من الألحان المتشابهة لأم كلثوم لدرجة أنك تستطيع بكل سهولة الدخول في أحدها والخروج إلى آخر ثم العودة دون أن يلحظ المستمع أنك قد تركت الأغنية ، إلا إذا كان يحفظ تلك الأغانى المطولة جميعا عن ظهر قلب ، هكذا نصل إلى أن فن أم كلثوم كان في حاجة إلى تجديد
وقد تم لعبد الوهاب تحقيق ذلك التجديد في موسيقى إنت عمري ، ولأول مرة في تاريخ أم كلثوم يطلب الجمهور إعادة مقطع من أغانيها لا تغني فيه كوكب الشرق بل تعزف فيه الموسيقى فقط ، وأم كلثوم تنتظر فراغ الجمهور من استقبال تلك الشحنة الهائلة التى فجرتها موسيقى عبد الوهاب
كرر عبد الوهاب هذا الأسلوب في كل مرة لحن فيها لأم كلثوم ، وفي كل مرة يقدم شيئا جديدا ومبتكرا وفائق الجودة ، وتكرر نفس الاستقبال الجماهيري الحار في كل منها ، بل وأصبح الجمهور ينتظر موسيقى عبد الوهاب ويطير فرحا مع كل موسيقى جديدة يقدم فيها عبد الوهاب أفضل ماعنده ، ومع الوقت أصبحت تلك المقدمات الموسيقية مقطوعات مستقلة تعرف بأسماء أغانيها وتعزفها كل الفرق الموسيقية فى جميع المناسبات!
والنجاح الكبير الذي حققته مقدمة "إنت عمري" الموسيقية فتح عصرا موسيقيا جديدا له ملامج خاصة منها:
1. أن الجمهور أصبح يستقبل الموسيقى بنفس الشغف الذي يستقبل به الغناء والطرب
2. أن باب المنافسة في التأليف الموسيقي قد فتح على مصراعيه بعد سنوات طويلة من سيطرة الغناء على العمل الفني
3. أن التحديث الموسيقي أصبح البوابة التي يلزم لكل موسيقي اجتيازها للترقي في سلم الفن واكتساب رصيد جماهيري
لمثل هذه الأسباب وغيرها نقول أن عبد الوهاب رائد وقمة فنية ، إنه يقدم أفكارا جديدة تنجح وتغير من أسلوب العمل وتنشئ طريقا يسير فيه الآخرون د.أسامة عفيفي فى الحلقات القادمة سنحاول تقديم نماذج أخرى من موسيقى الرواد فتابع معنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق