كلاسيكيات الموسيقى العربية * أرشيف * استماع *  تحميل *  نقد فنى *  تحليل موسيقى* أفلام * صور *  تسجيلات * كلاسيكيات الموسيقى العربية
كلاسيكيات الموسيقى العربية * الخمسة الكبار * سيد درويش * محمد القصبجى * زكريا أحمد * محمد عبد الوهاب * رياض السنباطى * نجوم الغناء العربى * أم كلثوم * عبد الوهاب * فيروز * عبد الحليم * ألحان التراث * موشحات * قصائد * أدوار * كلاسيكيات الموسيقى العربية

السبت، 20 أبريل 2013

“بلا حبٍ، لن يكون هناك أي مشقٍ”

إلى الغالي بين جنبيّ، أسعد الوصيبعي
  أسعد أيها العزيز، بالأمس القريب، تكلمنا عن مدارس (طرق - ميتود) تعليم العزف على آلة الكمان في شتى أنحاء أروبة قديماً، وجديد المناهج والتوجهات في أمريكا واليابان. قد عجبنا كثيراً من أعظم الاساتذة في روسيا و فرنسا و هنغاريا و ألمانيا وجديد أرقى مدارس أمريكا و كان الحديث عن المبادئ والأسس التي بنوا عليها تربية العازفين الجدد للوصول بهم إلى ما يشبه المعجزة. هذا، وكان التركيز على الجيل الأول الذي غير صوت الكمان والعزف والتعبير إلى الأبد وحظينا بتسجيلات التغيّر الأول مع الاسطوانات الأولى في بدايات عصر التسجيلات. هكذا كانوا نقطة تحول من بعد أجيال من العمالقة كانت لم تتهاون ولم تتأخر في تعليم هذه الآلة عظيمة الإرث والحظ من حيث ما كُتب لها وأُلف والكتب والمناهج التعليمية ومن حيث العازفين. كنا كذلك تناقشنا و عممنا الحديث عن الآلات الأخرى وعممنا الأمر على ما خرج عن الموسيقى من مهارات وعن حقيقة ما يطلق عليه "التعليم" الذي يوصل إلى درجة الكمال والتميّز في ذات الوقت. لكننا لم نتحدث عن المشق، وهو عجب آخر من أعاجيب التعليم الذي ينتهي بنتائج معجزة. هو نظام تعليم عريق كان سيد النظم حتى زمن قريب من إرث الدولة العثمانية وتخفّى مع سقوطها وقيام الدولة التركية الحديثة ومع التوجه لنظم التعليم الغربية الحديثة؛ لكن ما حكاية نظام المشق هذا؟ سأتناوله بدأً من طريق اللغة.

 صاحبنا الذي نُجِلُّ، أحمد بن فارس في مقاييس اللغة يقول:
"الميم والشين والقاف أصلٌ صحيح يدلُّ على سُرعة وخِفّة. يقولون: مَشَق، إذا أسرَعَ الكتابة."
كان لا بد لي من مشاورته رغم أني لا أرجح أن يكون هناك علاقة بين هذه الكلمة العثمانية و العربية إلا إذا اعتبرت أن الزمن قد أخذ منها مأخذاً ونجرها وكانت كما هي اليوم فيما نريد التطرق إليه. ابن فارس قال "الكتابة"، والدارسون والممارسون لظاهرة المشق، يذكرون أصلها بعلاقته بالخط العثماني. وعليه، فالمشق إما أن يكون دلالة على نموذج لوحة يحتذيه الطالب من استاذه ويمشق عليه حتى يقلّده ويعيد خلقه، وإما أن يكون هو فعل التمرين والإعادة والتكرار حتى نصل لمرحلة الإتقان والتقدم والاستاذية يوماً بعد يوم . هاتان هما الدلالتان الأوليتان فيما يظهر من نظرة تأصيلية أولى.

 أما في تفصيل ظاهرة المشق، فهي تحمل ظلالاً أكثر مما تتركه ظلال الصورة الأولى التي رأيناها. المشق نظام تعلُّم شامل لا يعتمد على كتابة ولا وثيقة ولا توثيق في المجمل. قد يبدو الأمر في الوهلة الأولى أقرب إلى التعليم في زمن "الأمية"، تعليم "الكتاتيب"؛ غير أن نتائجه ونتائج المناهج الجديدة يثير كثيراً من الشك في هذا التصور السلبي الأوليّ.

 المشق بعد النظرة الأولى نظام شامل كان وسيلة ناجعة ومدهشة في نقل المعارف من الاستاذ إلى التلميذ دون وسيلة توثيق ومنهج مكتوب. لنأخذ مشق الموسيقى! هذا المشق، بين استاذ وتلميذ، بُني على حب هذا العمل الذي سيكون مصيره الإتقان والتفوق، والاحترام وحسن السمع والطاعة والتقليد والتحليق معاً إلى عوالم من الكمال. ها هم التلاميذ كل يوم، مشتغلون على الإيقاع يضربون على أفخاذهم ويحفظون ويكررون الموسيقى دقيقة بكل تفاصيل الإيقاع واللحن والكلمة والمعنى و في ظلال العمل الموسيقي وتفسيره وتذوقه وتحليله، في جوٍ غايةٍ في التعاون والتقدير والتقليد والتنافس، بأصواتهم وآلاتهم وأياديهم وذاكرتهم وكل جوارحهم. هكذا، يتطور كل شئ ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم وشهرا بعد شهر. نعم، ثم يصعد التلميذ في سلالم الأستاذية والتمكن والتجديد وقد برع في كثير مما غمر سمعه وعقله وذاكرته وحواسه وفكره. ربما لا يكون لهذا المشق نهاية، وقد يطول به الزمن، ويكون هناك مشق هذا الأستاذ ومشق هؤلاء الأساتذة، ومشق هنا ومشق هناك، ثم لنا أن نسأل: كم أصبح من مؤلِّف موسيقي جديد عندنا، وعازف بارع أستاذ، ومؤد ومغن، و شاعر وأديب وناقد محلل ومجدد؟

 يعاب على المشق، العمرُ الذي يحتاجه، وعدم وضوح الموضوعات و عدم وضوح منهج يحدد معالم ما سيتم تعليمه | تعلمه و تطويره. يعاب عليه أيضاً، عدم التوثيق في غير الذاكرة، الذاكرة الفردية والجمعية، ذاكرة أجيال المشق. ولقد خسرنا في التراث الكثير من الأعمالن لأن تلك الأجيال قد رحلت بذاكراتها وكَثُرت الأعمالُ ونُسي وأُهمل منها شئٌ هنا وشئٌ هناك. لكن هذه مشكلة قد كان سببها تأخر التسجيلات. لو كانت هذه الإمكانيات التقنية موجودة، لكان قد سهل تسجيل ظاهرة نظام المشق هذا وجلساته وأساتذته وتلاميذه والمادة الغزيرة؛ وكم نحتاج لكل هذا وأكثر اليوم!

 ومن سوء حظ نظام المشق هذا، أن جاءت الحداثة العارمة مع قيام الدولة التركية والاتجاه للتحديث في كل أوجه الحياة وتكوين الهوية وترسيخ القومية التركية. لقد منعت الموسيقى العثمانية العظيمة من البث الإذاعي رسمياً في الإذاعات المحتكرة على الحكومة حتى التسعينات من القرن العشرين، وتم تقليص التعليم التقليدي – ومن ضمنه المشق – وحلقات الذكر والنشاط الصوفي والمولوي والتكيات ودور الألحان، وظل الأمر شديد الندرة مقارنة بما كان في سابق العهد. الاتجاه لمناهج الغرب الحديثة والاقتداء بها ونشرها في المدارس العامة ونزعة الانبهار والتقليد والتحديث في الموسيقى،كان كله في وجه المشق و وجه كثير من النظم والنتاجات والإرث العريق الذي كسبناه في عصور العثمانيين.

 و ربما بقي شئ من حسن الحظ، رغم كل ذلك، وهو أن كانت هناك تسجيلات تحمل صورة توثيقية عملية - طالع المصدر الثالث كنموذج غاية في الأهمية، وهناك أساتذة لازالوا يعملون على منوال نظام المشق يؤمنون به، وهناك الكتابات الذي تعود في قديمها إلى القرن السابع عشر وتوصّف عملية المشق في الموسيقى و في الخط والمهارات الأخرى. ولقد بقيت هناك بعض الجمعيات والمراكز والدور التي تفتح أبوابها لمن يريد تعلم الموسيقى بطريقة المشق، يأتيها الطلاب ويجلسون قبالة الأساتذة لساعات وأيام وسنوات، فتتفتق طاقات الصوت والشعر والحفظ والعزف على آلة وآلتين وأكثر من ذلك، ثم يصبح هؤلاء بارعين في هذا وذاك المجال.

 المشق، يصور لي التعلّم، كتعلم اللغة الأم في البيت من الاهل، ليرينا براعة الطفل في تلقف اللغة وفنونها وكل جوانب التعبير والأحاسيس والظلال اللغوية ومجازاتها وتقنياتها بأسرع ما يكون، وفي جدول عمل متواصل غير محدود، وتسليم تام وحب وأكثر ما يكون فاعلية وعملية. المشق يبدو أكثر قرباً لهذا التوصيف منه من منهج سوزوكي الياباني مخترع منهج الكمان والذي يحاول تعليم الأطفال منذ عمر الثلاث سنوات بطريقة تعليم آبائهم أولاً حتى يقلدوا ويحبوا ويبدأوا في العمل والتقدم أفراداً وجماعات!

 المشق أكثر شمولية وطبيعية ويجمع بين نقل المعرفة الظاهرة المحددة و والمعرفة الخفية الضمنية وفي أكثر من مجال. المشق يعلم مهارات شتى ويعلم حتى طريقة المشق ذاتها للتلاميذ ليعلموها من بعدهم حين ينقلبون أساتذة. وفي عصرنا هذا، ليس من الصعب أن تدمج حسنات المشق وعجائب نتائجه بحسنات المناهج المعاصرة والتوثيق والكتابة والتسجيل الحي. لنستعرض بعض النماذج – هي نتائج عمر من المشق- ونستمتع.

   إحدى جلسات المشق المهمة بين قطبين من أقطاب المشق صديقين مشقا معاً عمراً و كانا حديث المهتمين: بين كاني كراجا و اكا غندز كُتباي:


  



مشق بين الاستاذ تشينوتشن وبين كاني كراجا:




نموذج لجمعية أمين أونغان الموسيقية في أسكودار وهي التي افتتحت في العام 1918م ومازالت مفتوحة وهذا جمهرة من تلاميذها:


 


 لنطالع هنا ونتذكر الخط العثماني معاً:


وإلى تجليات أخرى:



ها أنا كلي آذان صاغية لأسئلتك وأروع أفكارك، أسعد ..

::. فاضل التركي


بعض مصادر:

1. A Historical Look at the Development of Methods of Turkish Music by Alper AKDENİZ

2. Music in Turkey by Eliot Bates

3. Meşk Album * Kani karaca and Aka Gündüz Kutbay    

هناك تعليق واحد:

  1. عزيزي الأستاذ فاضل
    في وصفك لنظام المشق ومقارنته بنظام "الكتاتيب" ومقارنة النظامين بالمناهج والميثودات الحديثة فقد لمست في الواقع أسلوبين مختلفين في التعليم، وهما يعبران عن عصرين مختلفين أيضا، ولكن ليس تماما، وسأذكر لماذا بعد قليل
    وأضيف لهذين النظامين القديمين النظام الذي كان، ومازال، يتبعه الحرفيون من أصحاب المهن اليدوية كالصناع والمزخرفون والبناؤون والحدادون وغيرهم وهو نظام "الصبي والمعلم" والذي يعتمد على أن يأتي الصبي كل يوم في حضرة المعلم فيعمل ويخطئ ويتعلم من أخطائه التي لا يجب أن تتكرر، وهكذا يجيد أكثر فأكثر إلى أن يصير الصبي "معلما" في النهاية .. نعم هذا يحتاج لسنوات طوال ..
    والذي يجمع هذه الأنظمة الثلاثة أنها أنظمة "شفهية" في الأساس وليست لها مناهج مكتوبة ، وهي وسائل تنقل الخبرة من جيل إلى جيل، وظل الحال هكذا مئات السنين في أماكن كثيرة من العالم، حتى رياضات الشرق القديمة مثل الجودو والكاراتيه كانت تتبع نظما مماثلة وتخرج في النهاية أبطالا وأساتذة ..
    الفرق في رأيي بينها جميعا وبين المناهج الحديثة أنها تهتم بالخبرة العملية أكثر من الأساس النظري.. وفي أيامنا هذه لا يمكن الاستغناء عن هذا "المدارس" القديمة العملية ، ولا يمكن للطبيب مثلا ، الجراحون بصفة خاصة، الاعتماد تماما على الكتب وإلا هلك المرضى .. كذلك الطيارون وأصحاب المهن عالية المهارة ، والموسيقيون ليسوا استثناء .. إذ لا يمكن للموسيقي الجيد أن يصبح كذلك من خلال الدراسة النظرية فقط .. لا بد له من "معلم"

    ذكرت أنه قد منعت الموسيقى العثمانية من البث الإذاعي رسمياً في الإذاعات المحتكرة على الحكومة حتى التسعينات من القرن العشرين، فهلا أعطيت لنا بعض الأمثلة مما قد منع؟
    تحياتي وشكرا جزيلا ..

    ردحذف