رحل عن الدنيا شاعر العامية المصري عبد الرحمن الأبنودي (1939 – 2015) الذي عرف بأشعاره الوطنية الممتزجة باللهجة المحلية والصور الريفية خاصة تلك المستوحاة من صعيد مصر. ومن أشهر ما غنى له عبد الحليم حافظ أغنية "عدى النهار" من ألحان بليغ حمدي التي عبر فيها عن الحزن والألم الذي ألم بالشعب المصري عقب نكسة يونيو عام 1967.
وللأبنودي عدة دواوين بدأها عام 1964 حوت مئات الأشعار، وغنى له كبار المطربين والمطربات في مصر. ومن أواخر أشعاره قصيدة "الميدان التي عبر فيها عن أحلام ثورة 25 يناير نسبة إلى ميدان التحرير الذي انطلقت منه الثورة وأصبح رمزا لها ولكل المتطلعين للحرية في أنحاء العالم. كما عبر في قصائد أحدث عن المشاعر التي أدت إلى ثورة 30 يونيو ضد حكم الإخوان وقدرة الشعب المصري على التخلص من الاستبداد
ونعت رئاسة الجمهورية المصرية "ببالغ الحزن والأسى الشاعر الوطني الكبير عبد الرحمن الأبنودي" وتقدمت لأسرته وذويه ومحبيه في مصر والوطن العربي بخالص التعازي والمواساة. وقالت الرئاسة في بيانها "إن مصر والعالم العربي فقدا شاعرا عظيما وقلما أمينا ومواطنا غيورا على وطنه وأمته العربية، أثرى شعر العامية من خلال أشعاره وأزجاله الوطنية التي عكست أصالة المواطن المصري وواقع البيئة المصرية، لاسيما في صعيد مصر، وعبرت عن الوطن في أفراحه وأحزانه، وفي انتصاراته وآلامه، وسيظل الفقيد وعطاؤه الممتد، رمزا وطنيا وعربا نفخر بأنه من أبناء مصر الأوفياء الذين أضافوا إلى سجل إبداعها فصلا ثريا زاخرا بصدق المعاني وروعة الأسلوب".
كان لي حظ لقائه صدفة داخل مبنى الإذاعة والنليفزيون بالإسكندرية في مطلع التسعينات، ووجدت الأبنودي جالسا وحيدا متواضعا على الأرض في حديقة المبنى فجلست بجانبه أتأمل مصر كلها في ملامح وجهه .. ثم دار الحديث الآتي .. عبد الرحمن الأبنودي ..؟ قال نعم أنا عبد الرحمن الأبنودي .. أنت من قال "وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها .. جانا نهار ماقدرش يدفع مهرها؟ قال نعم أنا الذي قلت هذا الكلام .. لم يكن السؤال من باب تحصيل الحاصل .. وقد لمح الأبنودي في سؤالي بعض التعجب والاندهاش وأدرك ما كنت أقصده، لأنه كان قد ترك الشعر الوطني والسياسي إلى الشعر الغنائي وربما التجاري لسنوات بعد هذا الكلام .. قلت .. وما الذي حدث؟ قال بدون لف ولا دوران " بعد الحرب، يقصد حرب الثأر عام 1973، الناس أحبت أن تعيش حياتها بعد أن ظلت لسنوات مشدودة حتى الأعناق .. راح الهم والحزن وبدأ كل منا يبحث عن الحياة الطبيعية .. وأنا لست مختلفا عن بقية الناس .. يعني كل زمن وله مواله كما يقولون".
أنا كل ما اقول التوبة - كلمات عبد الرحمن الأبنودي
ألحان بليغ حمدي - غناء عبد الحليم حافظ
مرت سنوات طوال بعد هذا اللقاء، تغيرت فيها أشياء كثيرة في حياة الناس في مصر، وطغى الاستبداد كما لم يطغ من قبل، وكان يعز عليّ أن أرى رمزا من الرموز الشعبية الوطنية العريقة يصعد المسرح في الاحتفالية السنوية التي كان يقيمها الرئيس السابق بمناسبة حرب أكتوبر لينشد شعرا في حضرته كما أنشد كثير من المنافقين، وكان مدعوا بصفة رسمية، بالطبع لكي يقول شيئا في مدح الرئيس، لكن الأبنودي قال كلاما غريبا عن المناسبة .. تكلم عن جذوره الضاربة في صعيد مصر وتذكر أمه والأطفال الصغار وأهل القرية ومعاناة البسطاء وأحلامهم البسيطة .. وبدا حديثه كما لو كان رسالة لوم وتحذير من الإهمال والفساد، مغلفة في حديث عن الذكريات .. مرت القصيدة مرور الكرام، ولم ينتبه أحد لمضمونها البعيد .. لكن هذا هو الأبنودي .. لا يسلم نفسه لتيار النفاق
عدى النهار - كلمات عبد الرحمن الأبنودي
ألحان بليغ حمدي - غناء عبد الحليم حافظ
رحم الله الأبنودي الذي كان قبسة من تراب مصر، عكست كلماته عبستها أوقات الحزن، ورسمت أشعاره بسمتها أوقات الأمل، وظل مخلصا لهذا التراب إلى أن عاد إليه ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق