محمد عبد الوهاب |
دخل عبد الوهاب غمار الفنون وهو طفل صغير، لكنه كان قد حفظ تراث الأقدمين وصدح بأشعارهم وألحانهم على مسارح العاصمة التي قدمته إلى الجمهور بالطفل المعجزة الذي يغني أدوار عمالقة القرن التاسع عشر عبده الحامولي ومحمد عثمان وقصائد سلامة حجازي
لكن الفتى الصغير اصطدم بعملاق آخر استصدر أمرا من حكمدار القاهرة بمنعه من الغناء في أي مكان، ولم يدر عبد الوهاب أن هذه الحادثة التي اعتبرها كارثة كبرى كفيلة بتدمير مستقبله الفني ستكون مفتاح مستقبل أفضل مما كان يتخيله أو يحلم به. فلم يكن ذلك العملاق غير أمير الشعراء أحمد شوقي الذي منحه كل العطف والرعاية عندما آن الأوان
كان أحمد شوقي يخشى على الطفل المعجزة من استهلاك صوته المعجزة في فترة الطفولة وهو لم ينضج بعد، ومن أن يجرفه تيار حياة المسارح والملاهي قبل أن تكتمل ثقافته وشخصيته. لكنه أخفى عن عبد الوهاب كثيرا مما يكنه له وما ينوي إزاء موهبته
مرت سنوات عديدة قبل أن تحدث الحادثة الثانية بين عبد الوهاب وشوقي. شب الفنان الصغير وبدأ يغني من جديد بصوت أكثر نضجا، وفي إحدى الحفلات على مسرح زيزنيا بالإسكندرية وبينما هو مندمج في الغناء يقدم إليه أحد الحاضرين قائلا إن أحمد شوقي يطلب لقاءه .. انزعج عبد الوهاب كثيرا وكاد يبكي من خشية اللقاء، فلم يكن له سابقة خير مع شوقي .. لقد عانى كثيرا في السنوات الماضية ولم يكن على استعداد لمواجهة أخرى من هذا النوع .. حاول التهرب من مقابلة شوقي لكنه لم يستطع حتى ذلك، فقد كان شوقي صاحب مكانة عالية ونفوذ عظيم وربما كان الأذى أكبر إذا رفض لقاءه، فقرر قبول المواجهة وليكن ما يكون
لكن شوقي طمأنه هذه المرة، وأخبره أنه يمكنه الآن مواصلة مسيرته بحرية، ولم يكتف بذلك بل نصحه بأن يكمل ثقافته ويعد نفسه لمرحلة جديدة سيساعده شوقي فيها على الوصول إلى أعلى المراتب .. وقد كان .. فقد تبناه شوقي بالفعل وعلمه من اللغة والشعر والأدب ما يستطيع أن يرقى به إلى أفضل ما يكون الفن
ظل الاثنان على العهد والاتفاق نحو عقد من الزمان، ولازم عبد الوهاب شوقي في حياته ورحلاته إلى عام 1932 حين توج شوقي أميرا للشعراء وعبد الوهاب مطربا للملوك والأمراء .. وعندما فارق شوقي الحياة حزن عبد الوهاب كثيرا لفقد أستاذه ومعلمه وراعيه .. لكنه لم يفقد الثروة الكبيرة التي تركها فيه شوقي .. واستطاع أن يشق طريقه وحده رغم المصاعب والعقبات
لكن شوقي لم يكن مكتشف عبد الوهاب الوحيد، فقد اكتشفه صغيرا فوزي الجزايرلي، ثم اكتشفه شابا سيد درويش عندما قدمته إليه مطربة القطرين فتحية أحمد وأسند إليه بطولة إحدى رواياته، ثم أسندت إليه منيرة المهدية استكمال تلحين أوبريت كليوباترا بعد وفاة سيد درويش
وكما كان الحال مع شوقي احتاج عبد الوهاب إلى معلم جديد في الفن والألحان .. كان عبد الوهاب يحضر بروفات سيد درويش ويستمع إلى ألحانه بإعجاب شديد، ولم يكن بقدرة شوقي أن يعلّم عبد الوهاب شيئا في الموسيقى والتلحين لكن فن العملاق سيد درويش كان المدرسة الجديدة التي تعلم فيها عبد الوهاب .. فقد أحس بالتجديد والابتكار وحسن التعبير وعلم أن فن سيد درويش ليس فقط ثروة بل ثورة في عالم الفن .. لذا قرر السير على خطاه
رحل سيد درويش عام 1923 ومضت نحو عشر سنوات أخرى قبل أن تبدأ شخصية عبد الوهاب الفنية في الظهور .. مستقلا عن شوقي وسيد درويش .. وبدا أن عملاقا جديدا سوف يظهر في سماء الفن، مبتكرا ومجددا. ومن أهم مظاهر تجديده تطويع القصائد للتلحين الحديث وكان هو رائد تحديث لحن القصيدة بعد أن ظلت تغنى على المنوال القديم أحقابا طويلة. وعندما نستمع إلى قصائد الثلاثينات مثل جفنه علم الغزل أو سهرتُ أو عندما يأتي المساء نكتشف النقلة الهائلة في لحن القصيدة مبكرا عن بقية الرواد الكبار. أما قصائده في الأربعينات فكانت أعمالا كبرى شملت الموسيقى والتلحين والغناء مثل مجنون ليلى والجندول والكرنك وكليوباترا وغيرها كثير من الأعمال التي لم يقتصر أثرها على تغيير شكل الفن وجوهره بل امتد إلى تشكيل الوجدان العربي الذي أصبح عبد الوهاب وألحانه وموسيقاه جزءا من هويته
حاز عبد الوهاب ألقابا عديدة .. حتى استقر لقبه الأكثر شهرة "موسيقار الأجيال". لم يأته هذا اللقب مجاملة أو صدفة بل استحقه عن جدارة، فقد كان فنه يتفوق على فن أقرانه وفن الفنانين الجدد حتى الآن .. ورغم تقدمه في السن على الفنانين من أجيال لاحقة كان هو الذي يبتكر وهو الذي يقدم الجديد وهو الذي يسير غيره في ركبه ويحاولون اللحاق به .. وكانت كلمة السر في مسيرته الطويلة هي "التجديد"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق