لا يمكن الإشارة إلى سيد درويش دون ذكر حقيقة هامة في حياته التي بدأت بمولده في 17 مارس 1892، وهي أنه لم يعش طويلا فقد رحل في سن مبكرة عن 31 عاما في 1923.
الحقيقة الثانية أن عمره الفني لم يتجاوز 6 سنوات حيث بدأ رحلته الفنية التي أحدثت تلك الضجة الكبرى عام 1917 وعمره 25 عاما، بانتقاله من الإسكندرية إلى القاهرة ومن ثم أرسى قواعد جديدة للموسيقى أثرى بها المسرح الغنائي الذي ينهل منه جميع فناني الشرق حتى اليوم.
لم تكن الموجة التي أحدثها سيد درويش موجة فنية خالصة بأي حال، فلقد أثرت في حياة شعب بأكمله، ولقرن من الزمان ومازال تأثيرها جاريا يتدفق كأنها تولدت بالأمس، وكان التأثير جارفا في الفكر والأسلوب والتعبير.
كان في زمن سيد درويش موسيقيون وملحنون كبار بدأوا قبله واستمروا بعده، ورغم علمهم الغزير وقدراتهم العالية وشهرتهم الكبيرة إلا أن فنهم لم يصل إلى قلوب الجماهير جيلا وراء جيل كما هو الحال مع سيد درويش الذي يغني ألحانه ملايين من البشر لم يعاصروه ولم يسمعوا منه شيئا. ومن هؤلاء داود حسني، كامل الخلعي، إبراهيم القباني وغيرهم.
وفي زمن سيد درويش أيضا كان هناك مطربون كبار لكن فنه تجاوزهم رغم شهرتهم، وحتى إن غنى أحدهم ألحانه فلم ينسب أي منها للمطرب، كما كان وما زال سائدا، ونسبت جميع ألحان سيد درويش إليه مباشرة كملحن. ما السبب الذي يجعل المطرب رقم 2 أو 3 أو قد لا يذكر على الإطلاق في لحن ما؟ الواقع أن سيد درويش وضع ألحانا ليغنيها الناس في كل مكان وسهل لهم ذلك. بظهور ألحانه لم تعد هناك ضرورة للمطرب المحترف الذي يصول ويجول مستعرضا صوته الفريد في الحفلات والسهرات. لقد خلق سيد درويش فنا يغنيه الناس في الحقول والمزارع وفي المصانع والشوارع، ويغنون ألحانه في الصباح وفي المساء وفي الوحدة والغربة كما في الجمع والأنس.
هناك شيء هام آخر تميز به فن سيد درويش وهو الحس الوطني العالي الذي ألهمه ألحانه الوطنية، والتي ألهمت بدورها الحس الجمعي للأمة كلها، وكاد بألحانه أن يصبح زعيما وطنيا. لقد وضع سيد درويش أول نشيد وطني، وتلاه بأناشيد أخرى ولم يكن النشيد معروفا قبله. وقد اختار أن يلحن بعضها دون أن يتعرف إلى كاتبها، وكان يفعل ذلك دون مقابل. هكذا ابتكر وهكذا ألهم الناس .. ليس فقط ليغنوا أناشيده بل ليستمدوا منها الثقة والحماس والأمل والإحساس بالهوية الأصيلة. ثم ألهم غيره من الفنانين ليصنعوا أناشيد جديدة في عصور أخرى.
ليس مبالغة أن نصف ما صنعه سيد درويش بأنه مدرسة متكاملة في الفن والاجتماع والسياسة والاقتصاد، وكان أسلوبه يجمع بسهولة فائقة بين البساطة والدقة، والشدة والرقة، لكنها سهولة ممتنعة، لا يجيدها إلا الموهوبون والعباقرة.
يا مرحبا بك - أوبريت العشرة الطيبة - سيد درويش
وقد يتساءل بعضنا أيهما صنع الآخر؟ هل صنع سيد درويش المسرح الغنائي؟ أم أن ذلك المسرح هو الذي صنع منه ملحنا عظيما.
عندما نقارن لأعمال المسرحية بغيرها من الفنون الموسيقية مثل القصيدة أو الموشح أو الأغنية الحديثة نجد فرقا شاسعا بين العمل للمسرح وتلك الأعمال. ذلك أنها بطبيعتها أعمال فردية حتى وإن تحدث موضوعها عن أفكار عامة. أما المسرح فهو يعكس قطاعا شاملا من حياة مجتمع ما، فيه الفرد والمجموع، تتنوع فيه المواقف والأحداث، كما تتنوع الشخصيات والعلاقات، وكل منها يتحدث بطريقته ويعبر عن نفسه وموقفه .. وفي المسرح فرصة أكبر بكثير للتعبير عن كل ذلك إذا لم يلتفت إليها الملحن فقد ضاع عمله هباء. وقد شاهدنا في عهود أخرى بعد سيد درويش مسرحيات غنائية وأوبريتات وأفلام سينمائية لم ترق إلى مستوى التعبير الذي يشعرك بالفعل بأن الموقف يتحرك أو يهدأ أو أن الحوار يتصاعد أو يتباين.
لم يخلق سيد درويش المسرح الغنائي من عدم، فقد كان موجودا قبله، وكان موجودا في عصره بأيدي فنانين آخرين، وثم استمر بعده على أيدي غيرهم، وبالتالي ليس هو صانع المسرح الغنائي. لكامل الخلعي أوبريتات عديدة وردت منها تسعة في كتابه "الأغاني"، كما لحن زكريا أحمد أكثر من 60 أوبريت، وهناك أوبريتات مثل "مرحب" و "قلنا له" اشترك فيها كامل الخلعي وسيد درويش معا كل بألحانه ..
الافتراض الثاني بان المسرح هو الذي خلق من سيد درويش ملحنا عظيما لا يمكن أن يكون صحيحا لأن نفس المسرح بموضوعاته وحواراته وأغانيه كان موجودا كما أسلفنا، حتى أن الأغاني تشابهت في عناوينها، فنجد ألحانا لكامل الخلعي تحمل نفس عناوين أغاني مسرحية أخرى لسيد درويش، فهناك لحن باسم "الشيالين" لكامل الخلعي وآخر بعنوان "إيه العبارة" ولحن باسم "إحنا الجنود زي الأسود". لم تستمر تلك الألحان للخلعي رغم أنها في قالب مسرحي وتتحدث عن نفس الموضوع وتحمل نفس العنوان وتستخدم نفس اللهجة وصدرت في تفس الحقبة الزمنية.
هناك أيضا ألحان لكامل الخلعي تحمل مضامين وعناوين مشابهة لألحان سيد درويش مثل "يامحلى قومتنا يا صبايا فى البدرية"، "قوموا نملا ونرجع فى البدرية"، "لحن الزفة"، والعديد من ألحان الطوائف مثل الشغالة، الممثلين، المضاربين، البهلوانية، الصيارفة، الشاويشية، الغفراء، المحضرين.
يحميكي يا شابة - أوبريت العشرة الطيبة - سيد درويش
لكن سيد درويش صنع مجد ذلك المسرح. ومسرح سيد درويش هو وحده الذي اجتاز اختبار الزمن، وظل تتناقله الأجيال ودون أدنى شعور بالتقادم. بالمقارنة مثلا مع ألحان محمد عبد الوهاب في العشرينات والثلاثينات، رغم أنها ما زالت تسمع، هناك وصف شائع لدى الجمهور لتلك الألحان بأنها تمثل "عبد الوهاب القديم" وكثيرون منا يحبون الاستماع إلى تلك الألحان باعتبارها ألحان تعبر عن جو قديم ولا يمكن تخيل أن يكرر أحد صنعها اليوم وإلا اعتبرناه يصنع ألحانا خارج الزمن مهما كانت جميلة. هذا الوصف لم يطلق أبدا على ألحان سيد درويش المسرحية رغم أنها سبقت ألحان عبد الوهاب بنحو عقد أو عقدين.
من الواضح إذاً أن هناك شيئا يخص سيد درويش نفسه كصانع ألحان، ولا يرجع نجاح ألحانه إلى النصوص أو إلى القالب المسرحي، ولا إلى الألحان كموسيقى مجردة، وإنما إلى قدرته الفريدة على التعبير بالموسيقى عن مضمون الكلمات، بل كما ذكرنا في مقال سابق فإنه هو الذي اخترع هذه المسألة، وهي مسألة عبقرية بالتأكيد. إذا أضفنا لكل ما سبق أنه استطاع في بضع سنوات تكوين تلك المدرسة التي امتدت لقرن كامل فنحن أمام موهبة تاريخية نادرة.
ولهذا يجب على كل فنان أن ينقب في فن ذلك هذا الرائد الكبير الملهم، وأن يغوص في أعماقه بحثا عن الكنوز الثمينة التي تركها لنا، وقد ترك كما كبيرا نحتاج إلى إعادة اكتشافه، ولو أن قيمة ما ترك وما أحدثه من تطور ليست في الكم بقدر ما هي في الكيفية والأسلوب والنظرة الشاملة المستقبلية.
روابط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق