كوكب الشرق أم كلثوم |
لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة يسعد الناس بشدوها ويأنسون لغنائها، وإنما خلف ذاك الصوت كانت هناك شخصية عظيمة رائدة. كان انتماؤها للثقافة العربية الأصيلة رايتها الأعلى وضمت القصائد التي غنتها كنوز الشعر العربي، القديم والحديث. إذا تغنت أم كلثوم بالشعر العربي أصبح على كل لسان بعد محبس طويل في الكتب والمكتبات وإذا اختارت فهي تختار الشعر وليس الشاعر، والفكر وليس الشكل. كانت تنقب وتنتقي أفضل المعاني وأرقى التعبيرات، وساعدها سلامة لغتها ومنطقها في تحويل الشعر المقروء إلى غناء مسموع، وبعد ما كان مقصورا على النخبة والمثقفين أصبح مسموعا لدى الملايين حتى الأميين
ظلت أم كلثوم تجرب في مختلف الدروب منذ أن احترفت الغناء عام 1924، وتنقلت بين الملحنين من صبري النجريدي والشيخ أبو العلا وداود حسني إلى محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، حتى أنها جربت التلحين لنفسها. وتميزت في تلك الفترة ألحان القصبجي لأم كلثوم عن غيرها لما امتلكه هذا الفنان العبقري من موهبة موسيقية فذة
لكن في عام 1946 بدأت أم كلثوم طريقا مختلفا كان فاتحة مجدها الحقيقي. فقد قامت بغناء سلسلة قصائد من أعظم ما كتب أمير الشعراء أحمد شوقي هي ولد الهدى، سلوا قلبي، ونهج البردة. ثم أتبعتها برباعيات الخيام التي ترجمها الشاعر أحمد رامي عن الفارسية. وفي 1951 غنت أم كلثوم أيقونة القصائد الوطنية "مصر تتحدث عن نفسها" لشاعر النيل العظيم حافظ إبراهيم، وفي 1952 غنت "مصر التي في خاطري" لأحمد رامي. بهذه القصائد الخالدة ارتقت أم كلثوم إلى قمة الفن وأصبحت ملكته وتاجه
كان خلفها وبجانبها الموسيقار العظيم رياض
السنباطي الذي ألهمت ألحانه الشرق كله وشكلت وجدان شعوبه واستقرت في القلوب قبل الأذهان
وتحولت الكلمات على يديه إلى أنغام ومشاعر وآهات وإعجاب .. وكانت أم كلثوم تذوب في
ألحانه حتى يبدو أنها هي من صنعها .. لكن هناك مفارقة هامة وهي أن أم كلثوم غنت
عدة ألحان لرياض السنباطي خلال عشر سنوات قبل ذلك، ولم يصل أي منها إلى النجاح
الذي حققته القصائد .. من هنا يظهر أن السر الحقيقي وراء هذا النجاح غير المسبوق كان
الكلمات بالدرجة الأولى .. الشعر العربي فائق الجودة .. وهو نفس المنبع الذي ألهم الفنان تلك الألحان الخالدة
سار الاثنان على نفس الدرب طويلا حى وصلا إلى قمة جديدة في القصيدة الأسطورية "الأطلال" من شعر إبراهيم ناجي عام 1966 وبها انطلقت أم كلثوم إلى أعلى الآفاق
غنت أم كلثوم أيضا بعد ظهور السنباطي من ألحان فنانين آخرين مثل محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي .. لكن ظلت ألحان رياض السنباطي هي الأصل والنموذج في فن أم كلثوم
تملكت أم كلثوم من ساحة الغناء لكن مشوارها لم يخل من المنافسة القوية على عرش الفن، وكان أقرب الأصوات إلى منافستها هو صوت فتحية أحمد، الصوت الذي كان يخيف الجميع بقدرته وطلاقته، فهي قادرة تماما على غناء أقوى القصائد والأدوار وكل أشكال الغناء، خاصة الغناء الحر الذي تفوقت فيه على أم كلثوم
وعلى الجانب الآخر كان "قطار الشرق السريع" محمد عبد الوهاب يتربع على عرشين لا عرش واحد، الغناء والتلحين. لم يكن من السهل منافسة محمد عبد الوهاب رغم وجود الملحنين الكبار ورغم صوت أم كلثوم الصادح في كل مكان. لكن أم كلثوم أدارت المنافسة باقتدار شديد، وكان أهم خطواتها السير على طريق الشعر العربي الذي ارتاده عبد الوهاب ببراعة منذ أن بدا بأشعار شوقي في عشرينات القرن العشرين إلى أن قدم قصائده الكبرى في الأربعينات مثل الجندول، الكرنك، كليوباترا، وغيرها .. فعلى نفس الدرب سارت أم كلثوم باحثة عن الجودة، واستطاعت أن تشق طريقها إلى القمة بما قدمته من قصائد بفضل استقبال الجماهير الرائع لقصائد شوقي الراقية
ثم أسدل الستار على هذه المنافسة حين اجتمع الاثنان، أم كلثوم وعبد الوهاب في سلسلة ألحان بدأت بلحن "إنت عمري" وتخللها عدة قصائد مثل هذه ليلتي، على باب مصر، أغدا ألقاك، وأصبح عندي بندقية
هكذا نصل إلى أن قصائد الشعر العربي هي التي صنعت مجد أكبر اسمين في عالم الفن، أم كلثوم وعبد الوهاب، ليس لمجرد أنها شعر فصيح ولكن بأفكارها وتعبيراتها ومدلولاتها الفكرية والوجدانية، وهي عناصر يمكن أن تتوفر في شعر العامية أيضا، ولعل في ذلك رسالة واضحة إلى المحدثين والفنانين الجدد .. الغناء وحده لا يصنع فنا عظيما ..
روابط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق