لم يدخر هؤلاء جهدا في سبيل إبداع الجديد من الفن، ولكن هذا الجهد، باستثناء سيد درويش، اتجه بقوة إلى تكريس الغناء الفردي وهو ما يعد ارتدادا إلى فن القرن التاسع عشر
عودة الغناء الفردي
كان المنطقي أن تستمر ثورة سيد درويش الفنية التي ترعرعت في ساحة المسرح الغنائي التعبيري بعد وفاة رائدها في ريعان شبابه، لكن توقف هذا المسرح تسبب في ردة عظيمة إلى أساليب القرن التاسع عشر التطريبية وعلى رأسها الغناء الفردي، حتى نشاط زكريا أحمد المسرحي الذي بلغ ضعف نشاط سيد درويش انتمى أكثر إلى المدرسة القديمة ولم يعد له نفس تأثير مسرح سيد درويش، ولم يعد في ذاكرة الناس شيئا من ألحانها إلا قلة معدودة لنفس السبب
بعد وفاة سيد درويش مباشرة تم تسويق الأغنية الفردية على أنها أفضل قالب فني يمكن إنتاجه، ودفع هذا الاتجاه وجود قاطرة من شركات الاسطوانات الباحثة عن الربح من بيع أقل ما يمكن من فن بأكثر من يمكن من مال
هناك عدة عوامل ساهمت في إعادة تكريس الغناء الفردي
وفاة سيد درويش عام 1923
بوفاة هذا العبقري رائد المسرح الغنائي انطلقت قوى معارضة لنشاطه الموسيقى تعمل فى اتجاهين:
الأول طمس كل ما يتعلق بسيد درويش من آثار
الثاني تشجيع كل فن يساعد على إغلاق نافذة المسرح الغنائي المتصلة مباشرة بالجمهور
في الاتجاه الأول استمرار لما كان يحدث في حياة سيد درويش من تهديد بالسجن والنفي وإغلاق مسرحه بالقوة أثناء العرض، وبعد وفاته فإن مجرد حفل تأبين سيد درويش أقيم بعد عامين من وفاته (1925)، ولم يتم إحياء ذكراه أو عرض إنتاجه لاحقا إلا بعد سنوات عديدة
في الاتجاه الثاني نرى عملية منظمة تجري لتكريس المطرب الفرد، هاهو محمد عبد الوهاب يكرم في مؤتمر الموسيقى العربية عام 1932 ويمنح لقب مطرب الملوك والأمراء حيث حضر المؤتمر ملك مصر وبعض الملوك والأمراء الضيوف. وفي مؤتمر علمي كهذا بل أهم مؤتمر موسيقي في تاريخ الموسيقى العربية على الإطلاق اشترك فيه باحثون من دول شتى شرقيون وغربيون لا ذكر مطلقا لسيد درويش أو موسيقاه
يقوم عبد الوهاب بعد ذلك برحلات منظمة يزور فيها البلاد العربية لإحياء حفلات أمرائها الذين يغدقون عليه الكثير من المكافآت. كما توجت أم كلثوم ملكة على الغناء وحصدت الألقاب وتعددت رحلاتها إلى العواصم العربية وكذلك فعلت فتحية أحمد
لماذا تلك الحملة ذات الاتجاهين؟ الإجابة تعرف من كشف القوى المعارضة لفن سيد درويش
- - القصر الملكي
- - الاحتلال البريطاني
- - الرأسمالية الأجنبية
- - الموسيقيون المحافظون
وهم الموسيقيون الموالون للطبقة الحاكمة والمتبنون للقوالب الموسيقية التركية المتوارثة عن الثقافة العثمانية التي توارت بمقدم سيد درويش. هذه القوالب كانت في إطار ما يسمى بموسيقى القصور، بينما قيل في سيد درويش أنه فنان استطاع أن يصنع من الموسيقى الشعبية فنا قوميا (وهذا ما فعله كثيرون من عظماء أوربا في الموسيقى). استطاع هؤلاء الموسيقيون إبعاد فن سيد درويش عن مناهج معاهد الموسيقى عشرات السنين، وظلت أدبيات هذه المناهج تركية المنشأ والهوى دون أي اكتراث بأعمال سيد درويش أو محمد عبد الوهاب رغم ثرائها وإبداعها ومصريتها وعروبتها الصميمة.
ومثل هؤلاء تصرف القائمون على الإذاعة المصرية حتى بعد استقلال إدارتها عن الإدارة البريطانية، ولسنوات طويلة لم تسمح الإذاعة المصرية بإذاعة أعمال سيد درويش المسرحية إلا من خلال صوت نجله محمد البحر الذي نصحه كثيرون بعدم أدائها بنفسه وترك هذه المهمة لغيره ممن هم أقدر منه على أدائها. لكن الإذاعة نفسها سمحت أحيانا بإذاعة أدوار سيد درويش بصوته، وهذا يشير إلى انتقائية واضحة في تناول فن سيد درويش، فمن المعروف أن أدواره العشرة كانت كلها أعمال عاطفية وبعيدة كل البعد عن الموضوعات الحساسة والساخرة التي تناولها في أوبريتاته المسرحية. وبالمناسبة فقد حدث سجال نشر على صفحات الصحف بين مدير الإذاعة ومحمد عبد الوهاب بسبب منع إذاعة أغنية فلسطين عام 1948 كما تم للإذاعة تغيير كلمات "ياليلة العيد" لأم كلثوم بإضافة اسم الملك فاروق في آخر بيت
عبد الوهاب رائد الأغنية الفردية
للإنصاف نقول أن عبد الوهاب قد علم أنه لن يسمح له بنوع فن سيد درويش الانتقادى الساخر الثائر. إن القوى التى حاصرت ذلك الفن هي نفسها التي تقوم بصنع نجمه فلم يكن أمامه بد في ذلك الوقت من العودة بالفن إلى سلطنة المطرب
أثبت محمد عبد الوهاب لاحقا أنه قامة عالية في الموسيقى العربية وحاز عن جدارة لقب موسيقار الأجيال، فقد استطاع لعقود طويلة حمل لواء التجديد
وفي البداية قدم عبد الوهاب نفسه للجمهور مطربا فغنى للقدامى قصائد سلامة حجازي وأدوار عبده الحامولي، لكنه رغم ريادته لفن التلحين بعد ذلك لم ينس مطلقا أنه مطرب وظل يغني بصوته بانتظام إلى الستين من عمره. عمل مطربا فى بعض الفرق المسرحية أهمها فرقة سيد درويش عام 1921 (أوبريت شهرزاد)، ومسرح نجيب الريحاني، وفرقة منيرة المهدية عام 1925 حين طلبت منه منيرة إكمال تلحين بقية رواية أوبريت كليوباترا ومارك أنطونيو التى بدأ تلحينها سيد درويش ولم يمهله العمر لإتمامها. لم يفرح محمد عبد الوهاب كثيرا بهذا العرض وهذا الإنجاز، وإنما على العكس تجنب الاستمرار فيه وقد تردد كثيرا في قبوله بداية
ومن إبداعاته أضاف شكلا جديدا من أشكال الموسيقى البحتة هو المقطوعات الموسيقية التعبيرية الحرة، وقد صار هذا تقليدا فيما بعد، ويندر أن تجد موسيقيا لم يؤلف مقطوعة موسيقية سماها بنفسه على طريقة عبد الوهاب، وهكذا أنتج الإبداع في غير الغناء إبداعا مثله، إلا أن حبه للغناء وقدرته عليه وتميزه بحنجرة ذهبية جذبت إليه ملايين الآذان جعله يغوص أكثر في قالب الأغنية بحيث تغلبت على الأشكال الأخرى في الموسيقى من إنتاجه
ماذا يقول عبد الوهاب نفسه في هذا الكلام؟
سئل عبد الوهاب عن عدم ارتياده ميدان المسرح الغنائي فقال: أنا أولا مطرب وعليّ الاهتمام بما أقدمه بصوتي، كما أني لست الملحن الوحيد وهناك ملحنون كثيرون لا يغنون وليسوا مطربين فلماذا لا يقومون بتلك المهمة؟ كنت أتوقع منهم القيام بهذا لكن أحدا لم يفعل، هذا ليس ذنبي.
نستخلص من هذا الحديث أن عبد الوهاب يتحدث عن "ذنب" ما .. أي اعتراف بأن هناك خلل أو خطأ ما قد حدث وها هو يبريء نفسه منه
وضمن دفاعه كشف صراحة عن سبب آخر وجيه لابتعاده عن الغناء المسرحي وتلحين الأوبريتات الثرية بالألحان مثلما فعل سيد درويش، فقال إن ألحان الأوبريتات لا يمكن إعادة عرضها كألحان مستقلة في الحفلات مثلا لأن لكل منها خلفية درامية تمنع استعادتها خارج الإطار المسرحي الذي ولدت فيه، فإما أن تعرض من خلاله أو لا تعرض على الإطلاق، وهو محق في ذلك دون شك لكن الأمر فيه تفضيل واضح للأغنية الفردية المستقلة
وعندما عرض على عبد الوهاب الظهور في السينما استغرق الأمر ثلاث سنوات ليبدي موافقته، وكان المخرج محمد كريم هو من عرض عليه ذلك عام 1930 وقدم أول فيلم له عام 1933 (الوردة البيضاء)، لكن السينما لم تغير كثيرا من فن عبد الوهاب، أي باستثناء بعض الديالوجات الدرامية تصنف أعماله السينمائية أغاني فردية بطلها مطرب
أم كلثوم وفتحية أحمد
ظهرت أم كلثوم كمنافس قوي لمحمد عبد الوهاب المطرب (1924) ، ولم يكن لأم كلثوم ميدان غير الأغنية الفردية فلم تشارك في أي عمل مسرحي، مما زاد من شعور عبد الوهاب بالتحدي في هذا المجال وجعله يستخدم كل مواهبه فيه
لم يكن محمد عبد الوهاب منافس أم كلثوم الوحيد، فقد كان أمامها تحدي صوت فذ آخر هو صوت فتحية أحمد التي كانت بطلة أوبريتات سيد درويش ثم تحولت بعد وفاته مباشرة إلى الغناء الفردي واستقطبت أول ملحن لأم كلثوم صبري النجريدي ليلحن لها 7 ألحان منها ست قصائد، وكذلك محمد القصبجي ثم زكريا أحمد ورياض السنباطي
وفي فن أم كلثوم بالإضافة إلى حرصها وتمسكها بالغناء الفردي تم احتكار مواهب الرواد الكبار لصالح هذا الاتجاه، والحقيقة أن كل من القصبجي وزكريا والسنباطي قد بنوا مجدهم الفني على صوت أم كلثوم، حتى قيل أنها ساهمت في صنع قاماتهم بقدر ما ساهموا في نجاحها كمطربة. وكما كان الحال مع عبد الوهاب لم تخرج أعمالها للسينما عن كونها مجمعا لأغاني أم كلثوم القصيرة
بين جيلين:
بمقارنة فن عبد الوهاب وأم كلثوم مع فن سيد درويش نجد فروقا جوهرية
1- مدح الحاكم
خلا فن سيد درويش من هذا البند بينما اعتمده كل من عبد الوهاب وأم كلثوم
2- المطرب النجم
لم يعتمد سيد درويش على أصوات المطربين قدر اعتماده على ألحانه، ومعظم ألحانه غناها مطربون غير نجوم بينما اشتهر عبد الوهاب وأم كلثوم بالغناء، ولو أن عبد الوهاب اقتصر على التلحين لكان نصيبه من الشهرة لا يزيد عن القصبجي أو السنباطي أو زكريا أحمد
3- نسبة العمل الموسيقي
من اللافت للنظر أن أعمال سيد درويش نسبت جميعها إليه كملحن بمعنى لحن كذا لسيد درويش، وأغنية كذا لسيد درويش وهكذا أثناء حياته ونشاطه وحتى الآن، بصرف النظر عمن قام بغنائها، بينما نسب إلى عبد الوهاب فقط ما غناه بصوته كمطرب أما ألحانه لغيره فلم تنسب إليه وإنما إلى المطرب، بما في ذلك ألحانه لأم كلثوم، ونسبت جميع أعمال أم كلثوم إليها كمطربة وقليل من الجمهور من يعرف ملحن أغنية ما لها، هذا يؤكد تماما الانطباع السائد عن دور كل منهم لدى الجمهور أي تكريس دور المطرب ممثلا في عبد الوهاب وأم كلثوم بالإضافة إلى تواري دور الموسيقي الملحن كمبدع أساسي
4- العمل الفني الدرامي والغناء الجماعي
الأوبريت كشكل فني كان عصب إنتاج سيد درويش الموسيقي، وهي عمل درامي متكامل يغني فيه الأفراد كما تغنى الجماعات، وتتيح هذه الأعمال فرصا كبيرة لتناول قضايا مجتمعية متباينة وشديدة التنوع بعكس الأغنية الفردية التي لا تخرج موضوعاتها عن المشاعر الشخصية. كما يغلب على ألحانها البساطة وسهولة الترديد، ويعرف عن ألحانه المسرحية أن الجمهور كان يخرج من المسرح وقد حفظها من العرض، هذا ليس واردا في أعمال عبد الوهاب أو أغاني أم كلثوم فأعمالهما من التعقيد بحيث لا يستطيع الجمهور أداءها، ولا معظم المطربين المحترفين، واتخذت معظم أعمالهما شكل الأغنية الفردية، وكان الجمهور يذهب إلى السينما ليس لمشاهدة الفيلم وإنما لمشاهدة المطرب
5- موضوع النص
فيما خلا من الأغاني الوطنية والدينية عاد عبد الوهاب وأم كلثوم بالغناء إلى عصر الغرام والهيام، وتم إسدال الستار على الموضوعات الاجتماعية والانتقادية التى كانت تمس معيشة الناس باختلاف فئاتهم ومعاناتهم
أثر الفن السائد على الأجيال الجديدة – لماذا لا نبدع؟
سيادة المطرب
لعلنا نرى بوضوح أنه كانت هناك ردة عن فن الموسيقى الجماهيرية التعبيري الذي أبدعه سيد درويش وجعل به التعبير بالغناء على كل لسان إلى فن الطرب الصوتي الذي كان سائدا في القرن التاسع عشر ولا يستطيع أداءه إلا المطرب المحترف، فعاد مجد المطربين وأصبحوا يملكون زمام الفن، وسيادة المطرب هذه كارثة فنية .. لماذا؟
1- الرسالة: يصبح المطرب صاحب التوجه الأول وصانع المال والجمهور والذوق وسوف يضع في وقت ما لافتة "الجمهور عاوز كده"
2- السيطرة: يتحكم المطرب في البوابة التي يمر منها المبدعون من الموسيقيين أهل العلم والشعراء أهل الفكر فيسمح لهذا ويمنع عن ذاك، وقد مارست أم كلثوم، على سبيل المثال، هذه السطوة على كبار الملحنين مثل القصبجي وزكريا دون هوادة
3- القصور: لا يستطيع المطرب إضافة أي شيء جديد حيث أن المطرب يقتصر دوره على أداء إبداع غيره (ولهذا لا يتمتع قانونا بحقوق الملكية الفكرية لأي عمل فني أو حقوق الأداء العلني)
4- التقليد: هناك فئة من الناس تنتظر دورها لتلعب دور المبدع هم الفنانون الجدد وهم قادمون حتما في كل عصر، لكن هؤلاء لن ينضح إناؤهم إلا بما شبوا عليه، فإذا طمست وغيبت أنواع الفنون لصالح واحد منها كالأغنية الفردية يصبح هو مفهوم الفن عند الشباب الذي يبدأ فنه عادة بتقليد السابق، هذا هو المنعطف الذى ينعطف عنده كل جيل، التقليد. وإذا ابتعد أحدهم عن التقليد فهو لا يزال يريد أن يصبح مطربا ولن يخرج هذا به عن دائرة الغناء، ومهما غنى فلن يضيف شيئا إلى الفن حيث سيظل مؤديا فقط لإبداع الآخرين
5- الإبداع: ذلك هو سبب ما نسميه الآن بالإفلاس الفني، والسؤال الساذج الذي يتردد كثيرا لماذا لا يوجد لدينا فن جيد ولدينا هذا الكم الهائل من الأصوات الجيدة يتجاهل حقيقة أن المبدعين ليسوا أصحاب الحناجر وإنما أصحاب العقول
كنا نود أن يكون للفنانين الرواد مساهمات أكثر في المجالات الموسيقية الأخرى غير الأغنية الفردية، وكما رأينا كلما أضيف شيء جديد قلده الجدد، هذا التقليد مكسب في حد ذاته للفن، فمن قلد اليوم سيبدع غدا. ولسنا هنا بصدد تقييم أعمال الرواد فهذا موضوع كبير، لكنا فقط نعرض كيف أن موسيقى اليوم نتجت عن تأثرها باتجاهات سابقة، د.أسامة عفيفي، فن الرواد بين التجديد والارتداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق