![]() |
سيد درويش |
تحدثنا كثيرا عن سيد درويش وعن فنه العظيم، وكذلك فعل كثيرون، لكن هناك أمرا غريبا في مسيرته لم ينل حظه من الضوء والبحث وهو استقبال الجماهير لفنه الجديد والمبتكر والذي يتلخص تحت عنوان "المدرسة التعبيرية"
اتسم الفن الموسيقي قبل ذلك ببعض السمات التي اختفت لاحقا، أهمها انفصال الكلمة عن اللحن، بمعنى الطرب من أجل الطرب. وكما حدث بعد ذلك بعقود في موسيقانا وفي كل العالم تقريبا من تجريد الموسيقى من النغم واقتصارها على الإيقاع كانت الموسيقى مجردة من التعبير، وهو ما حدث أيضا بظهور التيارات الجديدة التي ارتدت رداء الحداثة، بينما لم تكن في الواقع إلا انعكاسا للإفلاس الفني بعدما سيطر فن العمالقة ووصل إلى درجة التشبع ولم يعد بإمكان الفنانين الجدد مضاهاة ما أنتجه الكبار، فانجروا إلى أشكال من الفن حذف منها التعبير الكلاسيكي عن المشاعر الذي حل محله التعبير عن معان أخرى مثل الفوضوية باسم الحرية واللاميلودية باسم العصرية والانطباعية باسم الشخصية والتأثيرية باسم الموضوعية
أصبح لهذه التيارات مدارس ومراكز بحث وتنظير وصولات وجولات، لكنها لم تستطع خلق جمهور حقيقي يتذوق هذه الاتجاهات، وتوقف معظمها عن الانتشار، إلى أن دخل الفن الإيقاعي إلى الساحة في أواسط القرن العشرين فاستطاع أن يكتسب جمهورا كبيرا بفضل إيقاعاته، لكنه الجمهور الراقص وليس المستمع. اتجاه واحد أفلت من هذه الفوضى هو البوب ميوزيك وترجمته الحرفية الموسيقى الشعبية. نجحت موسيقى البوب، أو بوصف أدق أغاني البوب، في الاستقرار وسط العواصف والاستمرار في استخدام الميلودي (الألحان) للتعبير عن العواطف، وهو سبب نجاحها. ساهم في ذلك النجاح فرق جوهري بين الموسيقى العالمية الكلاسيكية التي سادت منذ القرن أواسط الألفية الثانية حتى مطلع القرن العشرين وبين أغاني البوب الحديثة، التي تضمنت كلمات يمكن التعبير عنها بالألحان بعكس الموسيقى الكلاسيكية التي خلت تماما من الكلمات
عودة إلى الحديث عن سيد درويش، ما علاقة فنه بهذا كله؟
جمع فن سيد درويش بين اللحن والمضمون في بوتقة واحدة، بحيث أصبح المقياس في جودة الفن هو مدى تعبير اللحن عن الكلمات، فقد ينغمس اللحن في الطرب أو قد يعبر عنها تعبيرا صادقا يجعله لا يصلح لكلمات أخرى
وما أردنا الالتفات إليه هنا هو كيف استقبل الجمهور فن سيد درويش الجديد. يذكر أن سيد درويش بدا مشواره الفني في الإسكندرية ثم قام برحلتين إلى القاهرة، فشل في الأولى ونجح في الثانية. أما لماذا فشل في الأولى فلأنه تم تقديمه كمطرب على المسرح يغني بين فصول المسرحيات التي كان يقدمها الفنان سلامة حجازي كممثل ومطرب وصاحب فرقة، وهو أيضا صاحب الدعوة لسيد درويش بالغناء. وفورا عقد جمهور المسرح مقارنة ظالمة بين صوتيهما وأصدر حكمه بعدم قبول الصوت الجديد، وعندما اتضح لكليهما خطأ التجربة عاد سيد درويش لمدينته محبطا لكن سلامة حجازي كان له رأي آخر، فقد واجه الجمهور قائلا إن هذا الفنان هو فنان المستقبل
ولإيمان الشيخ سلامة بموهبة سيد درويش ذهب إليه في الإسكندرية ليدعوه مرة أخرى لتقديم فنه بالقاهرة، ولكن كملحن وليس مطربا، فعرض عليه أن يقوم بتلحن رواية مسرحية جديدة تكون كلها من ألحانه. قبل سيد درويش الدعوة وقام بتلحين أول رواية له وهي "فيروز شاه"، والعجب أن هذا العرض كان لفرقة أخرى هي فرقة جورج أبيض
توفي الشيخ سلامة بعدها بأشهر قليلة وترك الشيخ سيد يصارع المستقبل فماذا حدث؟ لم تنجح الرواية كعرض مسرحي لكن المفارقة أن ألحانها أثارت انتباه الجمهور بحيث فصل إعجابه بالألحان عن تقبله للرواية. كانت المنافسة على أشدها بين الفرق المسرحية في ذلك الوقت، وكما أراد جورج أبيض أن يخفف قليلا من جدية مسرحه تحت ضغط من نجاح الفرق الكوميدية، أراد أصحاب الفرق الأخرى إضافة عنصر جديد إلى عروضهم، وكأنما نزلت ألحان سيد درويش هدية لهم من السماء فتسابقوا إلى اجتذابها إلى مسارحهم. هكذا تلقى سيد درويش دعوات متلاحقة لتلحين الروايات المسرحية وأصبحت ألحانه القاسم المشترك بينها
جمع فن سيد درويش بين اللحن والمضمون في بوتقة واحدة، بحيث أصبح المقياس في جودة الفن هو مدى تعبير اللحن عن الكلمات، فقد ينغمس اللحن في الطرب أو قد يعبر عنها تعبيرا صادقا يجعله لا يصلح لكلمات أخرى
وما أردنا الالتفات إليه هنا هو كيف استقبل الجمهور فن سيد درويش الجديد. يذكر أن سيد درويش بدا مشواره الفني في الإسكندرية ثم قام برحلتين إلى القاهرة، فشل في الأولى ونجح في الثانية. أما لماذا فشل في الأولى فلأنه تم تقديمه كمطرب على المسرح يغني بين فصول المسرحيات التي كان يقدمها الفنان سلامة حجازي كممثل ومطرب وصاحب فرقة، وهو أيضا صاحب الدعوة لسيد درويش بالغناء. وفورا عقد جمهور المسرح مقارنة ظالمة بين صوتيهما وأصدر حكمه بعدم قبول الصوت الجديد، وعندما اتضح لكليهما خطأ التجربة عاد سيد درويش لمدينته محبطا لكن سلامة حجازي كان له رأي آخر، فقد واجه الجمهور قائلا إن هذا الفنان هو فنان المستقبل
ولإيمان الشيخ سلامة بموهبة سيد درويش ذهب إليه في الإسكندرية ليدعوه مرة أخرى لتقديم فنه بالقاهرة، ولكن كملحن وليس مطربا، فعرض عليه أن يقوم بتلحن رواية مسرحية جديدة تكون كلها من ألحانه. قبل سيد درويش الدعوة وقام بتلحين أول رواية له وهي "فيروز شاه"، والعجب أن هذا العرض كان لفرقة أخرى هي فرقة جورج أبيض
توفي الشيخ سلامة بعدها بأشهر قليلة وترك الشيخ سيد يصارع المستقبل فماذا حدث؟ لم تنجح الرواية كعرض مسرحي لكن المفارقة أن ألحانها أثارت انتباه الجمهور بحيث فصل إعجابه بالألحان عن تقبله للرواية. كانت المنافسة على أشدها بين الفرق المسرحية في ذلك الوقت، وكما أراد جورج أبيض أن يخفف قليلا من جدية مسرحه تحت ضغط من نجاح الفرق الكوميدية، أراد أصحاب الفرق الأخرى إضافة عنصر جديد إلى عروضهم، وكأنما نزلت ألحان سيد درويش هدية لهم من السماء فتسابقوا إلى اجتذابها إلى مسارحهم. هكذا تلقى سيد درويش دعوات متلاحقة لتلحين الروايات المسرحية وأصبحت ألحانه القاسم المشترك بينها
ذكرنا في مناسبات أخرى أن المسرح الغنائي لم يكن من ابتكار الشيخ سيد، فقد كان موجودا قبله كما ظل موجودا بعد رحيله، وهذا ما يدعونا للتساؤل عن سر نجاح رواياته بالذات رغم وجود فنانين كبار مثل داود حسني وكامل الخلعي اللذين لم يجرؤ أحد على منافستهما، ورغم ظهور الشيخ زكريا أحمد بعده وتلحينه لأكثر من 60 مسرحية. الإجابة يملكها الجمهور الذي أقبل على ألحان سيد درويش إقبالا منقطع النظير
وإذا بحثنا عن تفسير فني لهذا الإقبال سنجد أن الفنانين المنتمين إلى عصر ما قبل سيد درويش كانوا يمارسون التلحين حسب قواعد عتيقة أساسها قوالب ثابتة وطرق مقيدة بها، بمعنى أن أي لحن سيشبه قصيدة أو دور أو موشح، ومال فن زكريا إلى الطرب بحكم تركيبته التقليدية، فهل لحن سيد درويش كلمات وطنية مثل نصوص أوبريت شهرزاد بصيغة الموشحات أو القصائد؟ بل جاءت في أشكال جديدة كالنشيد والأنشودة. كما جاءت ألحان الطوائف الشعبية مناسبة تماما للبيئة الشعبية التي تعبر عنها وهكذا .. وفي خضم ابتكاراته لم ينس سيد درويش ابتكار إيقاعات حديثة سريعة حركت المياه الراكدة في عالم التلحين
وإذا بحثنا عن تفسير فني لهذا الإقبال سنجد أن الفنانين المنتمين إلى عصر ما قبل سيد درويش كانوا يمارسون التلحين حسب قواعد عتيقة أساسها قوالب ثابتة وطرق مقيدة بها، بمعنى أن أي لحن سيشبه قصيدة أو دور أو موشح، ومال فن زكريا إلى الطرب بحكم تركيبته التقليدية، فهل لحن سيد درويش كلمات وطنية مثل نصوص أوبريت شهرزاد بصيغة الموشحات أو القصائد؟ بل جاءت في أشكال جديدة كالنشيد والأنشودة. كما جاءت ألحان الطوائف الشعبية مناسبة تماما للبيئة الشعبية التي تعبر عنها وهكذا .. وفي خضم ابتكاراته لم ينس سيد درويش ابتكار إيقاعات حديثة سريعة حركت المياه الراكدة في عالم التلحين
وما حدث من تقبل الجمهور لألحانه بها الإقبال الكبير لم يكن إلا تطورا منطقيا يضع الفن في مكانه الطبيعي كأداة تعبير عن الشعب والوطن وليس تسلية محضة لبعض الناس. وصحيح أنه له فضل اجتهاده بموهبته ورؤيته وإخلاصه، وصحيح أنه نجح في مخاطبة جموع الشعب وليس فئة منه، لكن هكذا شارك الجمهور الواعي في صنع سيد درويش وسطوع نجمه واستمرار تألق فنه وريادته إلى اليوم
روابط
سيد درويش
ألحان سيد درويش الوطنية - قوم يا مصري
روابط
سيد درويش
ألحان سيد درويش الوطنية - قوم يا مصري