في حركة غير مسبوقة نشط المسرح التجاري وانتشرت عروضه لسنوات طويلة بداية من السبعينات إلى الثمانينات والتسعينات. وبينما نجح القطاع الخاص في تقديم مسرحيات جيدة، خاصة الكوميدي منها، وتألق معها نجوم كثيرون من الممثلين لم يمتد هذا النجاح إلى الفنون الموسيقية المسرحية لعدة أسباب منها
1. عدم صلاحية النصوص للمسرح الغنائي، فالغناء كان "غناء على المسرح" أكثر منه "غناء مسرحيا".
2. ضعف كفاءة الإخراج، وجهل المخرجين بوظيفة الموسيقى المسرحية، بل بالموسيقى بصفة عامة
3. فشل الملحنين فى إبداع ما يناسب المسرح
4. إقحام رقص الملاهي والتهريج بما يفقد العمل جديته
5. الاعتماد على رواد المسرح السياحي والترفيهي كجمهور عارض ليس مؤهلا لاستيعاب رسالة المسرح الجادة
وبالمقارنة مع نشاط المسرح في مطلع القرن العشرين نجد عدة فروق:
ا. حقق المسرح القديم في وقته رواجا كبيرا بفضل الحركة الموسيقية التي أبدعها سيد درويش وغيره من الملحنين المعاصرين له مثل كامل الخلعي وداود حسني وزكريا أحمد. لا يقلل من ذلك تحقيق عروض سيد درويش نجاحا أكبر من غيرها، فإن هذا يرجع في المقام الأول لاستخدامه المدرسة التعبيرية وتسخيرها لخدمة النصوص والمسرح بصفة عامة، وقبول ألحانه غير المسبوق لدى الجماهير، وهي الألحان التي ما زالت تردد إلى اليوم رغم تواري النصوص المسرحية والروايات مع الزمن.
ورغم حشد المسرح التجاري الجديد لأسماء عديدة من مشاهير الملحنين مثل بليغ حمدي وسيد مكاوي وغيرهم، إلا أنه سجل فشلا ذريعا فيما تعلق بالألحان المسرحية. وقد يعزو البعض هذا الفشل إلى ضعف النصوص، لكن هذا التفسير يقف قاصرا أمام ما صاحب المسرح التجاري من بعض نصوص قوية قدمها نجوم كبار مسرحيات نجم الكوميديا عادل إمام مثل "مدرسة المشاغبين" أو "الزعيم" أو مسرحية "ريا وسكينة" للنجمتين شادية وسهير البابلي. تخلل تلك المسرحيات أغان واستعراضات عديدة، بخلاف الافتتاحيات الموسيقية، فشلت جميعها في أن تضيف قيمة فنية تجعل من العمل عملا موسيقيا مسرحيا أصيلا، أو أن تضيف إلى ذاكرة الجمهور رصيدا غنائيا خالدا كالذي أضافه مسرح سيد درويش. ويضاف إلى هذا أيضا وصول بعض الأسماء إلى "تلحين" المسرحيات ممن هم ليسوا كفؤا لتلك المهمة، ولا نريد أن نذكر بعض هذه الأسماء هنا لكنها على أية حال ليست أسماء لمبدعين حقيقيين، فضلا عن ترويجهم لأشكال من الغناء أقل ما يقال فيها أنها دون المستوى، إن لم تكن تهريجا، ومن بينهم ملحنون اختصوا بتلحين الأغاني الهابطة.
ب. كان المسرح القديم هو الواجهة الكبرى للفنون، فلم تكن السينما قد وصلت بعد إلى مرحلة النضوج، ولم تكن هناك إذاعات ولا تليفزيون ولا قنوات فضائية أو إنترنت. وكان ارتياد المسرح يمثل قيمة ترفيهية كبرى لدى المشاهد، أي أنه احتكر تقريبا ساحة الفنون الكبرى دون منافس. ورغم حداثة المسرح في المنطقة العربية في أوائل القرن العشرين، إلا أنه استمد جذوره من فن قديم يعود إلى أيام الحضارة الرومانية واليونانية، وفي منطقتنا العربية آثار للمسرح الروماني تقول أن ذلك الفن كان مزدهرا في العصور القديمة.
ج. تناول المسرح القديم قضايا عامة وعرض العديد من الصور الشعبية الأصيلة، بينما تناول المسرح التجاري الجديد موضوعات تافهة هدفها التسلية المحضة، بل إن بعض المسرحيات قامت ببطولتها راقصات جئن من الملاهي الليلية! وبلغ من ضعف النصوص أن طلب المخرج في بعض الأحيان من النجوم ارتجال النص على خشبة المسرح "تبعا للموقف"! وروى لي الفنان الراحل الممثل شعبان حسين عام 1993 أنه رفض عروضا عديدة لأدوار على المسرح بأجر جيد بل مرتفع، لكنه رفضها عندما اكتشف أن النص عبارة عن بضع صفحات لا غير، وأنه يفترض أن يتواصل على المسرح مع الممثلين أو مع الجمهور! بل إن أحد كتاب المسرح اعترف على شاشة التليفزيون ذات يوم بأن أضعف مسرحياته "جمري جمري" كانت أنجحها واستمر عرضها 4 سنوات متصلة، وأنه لا يملك تفسيرا لهذا..! وهو المؤلف محمود أبو زيد الذي كتب روائع مثل "جري الوحوش"، "العار"، "الكيف"، و"البيضة والحجر"، متحدثا عن مسرحية بعنوان "جمري جمري" قدمت عام 1995. لكن التفسير المنطقي هو الحشد الترفيهي والدعاية الملحة!
د. ورغم ذلك الحشد الترفيهي لم تخرج أغنية واحدة إلى خارج صالة المسرح التجاري، فلم يرددها الجمهور فيما بعد، أو تذيعها وسائل إعلام أو حتى يذكرها أحد من شاهدوا العرض فعلا.! وهذا يدلل على أن ضعف القيمة الفنية والموضوعية لذلك المسرح لم يقتصر على النصوص بل تعداها إلى الألحان والغناء والاستعراض وما إلى ذلك من الأشكال الفنية.
هـ. هناك فرق أيضا بين جمهور المسرحين، فقد جذب المسرح القديم جمهورا يرتاد المسرح بشغف تام لإدراكه أنه يقدم فنا راقيا ومتقدما ولأنه يكتشف من خلاله آفاقا جديدة للفنون، بالإضافة إلى شعور الجمهور بأن المسرح قد خاطب عقله ووجدانه، بل إن مسرح سيد درويش كان رافدا لثورة المجتمع على السلطة الفاسدة بحكم تقديمه أعمالا عكست نبض الشعب. إذ أن رسالة المسرح الحقيقية تتعدى حضور جمهوره إلى المجتمع خارج حدوده ولا يتأتى ذلك إلا من خلال أعمال تستطيع خلق نقاش مجتمعي حولها.
افتقر المسرح التجاري إلى ذلك البعد الخطير، ففي المقابل جاء جمهوره في الثمانينات والتسعينات في معظمه من المصطافين أو السياح العرب أو هواة الرقص والتنكيت، لا سيما أن أسعار الدخول كانت خيالية بكل المقاييس، ولا يستطيع تحملها إلا من جاء أصلا من أجل إنفاق ما زاد من ماله على السهر والسمر. من هنا كان ذلك المسرح موجها أساسا إلى تلك الفئات، فلم تعد له رسالة أو مضمون، ولم يحمل أي شيء يجذب اهتمام الناس خارج قاعاته، وهو ما جعل النقاد يصفونه بالمسرح التجاري.
وفي رأينا أن المسرح لا يعيبه أن يكون تجاريا بل يجب أن يتحقق له الربح لكي يتمكن من التمويل الذاتي، شأنه في ذلك شأن أي مشروع ناجح اقتصاديا، لكن المسألة فيما يخص المسرح والأدوات الثقافية الأخرى لا يجب أن يكون الربح هدفها الأول والأخير أو الوحيد، فهو يحمل رسالة اجتماعية وله وظيفة عقلانية ودور تنويري إيجابي إلى جانب دوره الترفيهي، ولا نرى في هذه الخصائص شيئا يمنع من الربح أو الجدوى الاقتصادية، خاصة في عالم تسوده المادة ويحركه المال والأعمال، وتخلت الدولة فيه عن الإنتاج الفني بكافة أشكاله. كما يمكن أن تعود الدولة للقيام برعاية المسرح وغيره من الفنون كما كان الحال في الستينات، ولن يعترض أحد على الإدارة المالية السليمة لهذا النشاط أو ذاك.
وربما جدير بالذكر هنا تجربة سيد درويش رائد المسرح الغنائي في الإنتاج المسرحي، فقد كون فرقته الخاصة للإفلات من سيطرة المنتجين، وقدم من خلالها أعظم مسرحياته، لكن مسرحه الذي موله من ماله الخاص سجل خسائر جعلته يتوقف في النهاية عن الإنتاج. ويتضح من هذه التجربة أن العامل المالي والاقتصادي يحتاج إلى رأسمال قوي يتحمل تقلبات السوق على المدى الطويل، ولهذا تكونت فرق مسرحية عبارة عن شركات مساهمة بين عدة جهات تتعاون فيما بينها للحفاظ على المسار وتحقيق الهدف، وكلما كان الفنانون أنفسهم مساهمين بتلك الشركات كلما كان العائد الفني والثقافي أكبر وأكثر قيمة، لأنهم أحرص الناس على تقديم رسالتهم، ولأنهم بذلك يتحررون من سيطرة الدخلاء وتجار الفن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق