تحل اليوم 5 يناير، الذكرى 52 لرحيل أمير شعراء العامية، بيرم التونسي، صاحب الكلمة الحرة والقلم الجريء، وكان حقا لا يخشى في الحق لومة لائم. وكلفه شعره ثمنا باهظا. نفي بيرم خارج البلاد أكثر من مرة لكنه عاش في مصر بعد ذلك مكرما معززا، لينال جائزة الدولة التقديرية في الأدب الشعبي في عهد الرئيس جمال عبد الناصر قبل وفاته بعام واحد.
بيرم التونسي |
لم يكن بيرم التونسي شاعرا تقليديا بأي مقياس، كان يغوص بأشعاره في عالم الإنسان والنفس والطبيعة والسلوك ، وكان يستطيع بفكر عميق وبصيرة ثاقبة تشريح المجتمع وتفسير سلوكياته ونقده كأنه يرسم صورة حقيقية للناس من خلال الكلمات الصادقة والصور الطبيعية. هذا فوق قدرته المعجزة على نظم الكلمات ونسج إيقاعها في سلاسة ورشاقة كأنها موسيقى.
وكان لبيرم قدرة خاصة على استكشاف جذور المشكلات المجتمعية وتصوير أسبابها، بل ووضع حلول لها، كل ذلك في آن واحد وبشكل غاية في البساطة، متخذا من أسلوبه الساخر أداة لاذعة جذبت إليه الأسماع والأنظار، بل وجعلت أشعاره من فرط عمقها وصدقها تعيش حتى اليوم مجسدة مشاكل الأمس التي لم تحل للآن، وتجعلنا نشعر من خلال كلماته أنه ما زال يعيش بيننا يرى واقعنا العربي بحلاوته تارة وبمرارته تارات أخرى.
الصوفية الشعرية "القلب يعشق كل جميل" - أم كلثوم - بيرم التونسي - رياض السنباطي
بلغت دقة وخطورة شعر بيرم أن قال عنه أمير الشعراء أحمد شوقي "أخشى على الفصحى من عامية بيرم". وفي قصيدته "لوري البلدية" صورة حية لما كان يجري، ولا يزال، من جانب السلطات في معاملة الباعة الجائلين حيث صورت أبياتها بالضبط ما جرى بعد أكثر من 50 عاما في الأحداث التي أشعلت الثورة التونسية في 2010 حينما صفعت شرطية شابا تونسيا فقيرا يبيع الخضر على قارعة الطريق، كان هو وقود الثورة محمد بو عزيزي.
قال في لوري البلدية:
لـــــوري البلديـــــــــة ... عــــامل دوريــــة .. ومقـــدر روحــــه ... على كل أذيـــــــة
قوم شوف إيه خاطف ... مواجير ومقاطف .. ومشــــــنة حلبــة ... صــاحبتها وليــة
قوم شــــوف إيه لامم ... خرفـــان وسـلالم .. متاخـــــــدة غنايم ... وياريت حربيــــة
وكراسي قهــــــــاوي ... وحلل وبـــــلاوي .. عملوا لها دعاوي ... وحاجات رســمية
ويشـــوف الخضري ... ببضاعته بيجـري .. يدلقها ودوغــري ... ياخــد العربيــــــة
فى باريس الشــارع ... فيه ألفين بايــــــع .. واقفين ببضــــايع ... من طايبة ونيــــة
واشمعنى جنابنــــــا ... نبرم فى شــــنابنا .. على بيـــاع جبنـة ... وبتــاع طعميـــــة
"وحينما اندلعت ثورة تونس كتبت متعجبا في أحد المقالات
وما رصدته عين بيرم وسجله قلمه يظل قائما دون أدنى خجل أو تفكير .. إلى أن أشعل أحدهم النار فى نفسه يأسا ، وأشعل بذلك شرارة ثورة شعب بأكمله فى تونس. أكثر من ستين عاما لم يستمع فيها أحد ولا سلطة لكلام بيرم .. ذهبت نظم وتغيرت نظم ورحل حكام وجاء غيرهم والحال هو الحال .. الشعب يعانى والسلطات تمارس نفس الأساليب وتفكر بنفس الطرق .. إلى أن دفع الثمن أحد الحكام، وفر هاربا من غضب الشعب ..!"
وحقا من أعاجيب القدر أن يصف بيرم التونسي كيف يمكن تشتعل الثورة في بلد أجداده تونس بعد عشرات السنين
وبيرم أيضا هو القائل في نقد الشرق بأكمله
يا شـــرق فيك جو منــور .. والفكر ظلام - وفيك حرارة يا خســـارة .. وبرود أجسام
فيك تسعميت مليون زلمة .. لكن أغنــــام - لا بالمسيح عرفوا مقامهم .. ولا بالإسلام
ولد شاعر الشعب محمود بيرم التونسي في الإسكندرية في 4 مارس 1893، ولقب بالتونسي حيث تنتمي أصوله إلى أسرة تونسية قدمت إلى مصر عام 1833، عندما هاجر جده لأبيه للإسكندرية وأقام بها، ورغم ذلك لم يحصل بيرم على الجنسية المصرية إلا في أواخر حياته.
عاش بيرم طفولته في حي السيالة العتيق بالإسكندرية، التحق بالكتاب ثم بالمعهد الديني، وتعرف إلى سيد درويش طفلا، وتوفي والده وهو في الرابعة عشرة من عمره فأصبح الصديقان الصغيران يتيمين حيث توفي والد سيد درويش أيضا وهو صغير.
بدأت شهرة بيرم التونسي بقصيدته "بائع الفجل" التي قال فيها منتقدا المجلس البلدي وضرائبه قائلا " يا بائع الفجل بالمليمِ واحدةً .. كم للعيالِ وكم للمجلس البلدي" ، ومن هنا أصبح النقد وسيلته التي فتحت له أبواب الشهرة .. والعذاب أيضا.
لم تكن حياة بيرم مستقرة بأي حال، وفضلا عن النفي خارج البلاد، حاول كثيرا أن يكتب معبرا عن أفكاره لكن الكتابة في حد ذاتها كانت مصدر قلق دائم للسلطات، فعانى من اضطهاد السلطة له باستمرار. وكلما أصدر جريدة أو مجلة تم إغلاقها بأمر حكومي، إلى أن أصدر "المسلة" التي كتب تحت عنوانها ساخرا "المسلة .. لا هي جريدة ولا مجلة" في إشارة لمصادرة الجرائد والمجلات.
ونفي بيرم إلى تونس بسبب مقالة هاجم فيها زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد، ولكنه لم يتحمل البقاء فيها فرحل إلى فرنسا ليعمل حمالا في ميناء مرسيليا، ثم عاد إلى مصر يمارس هوايته في انتقاد السلطة من جديد. وسرعان ما قبض عليه ليتم نفيه مرة أخرى إلى فرنسا، ويحاول العمل هناك لكنه يفصل من عمله فيعاني بؤس العيش وقسوة التشرد، لكنه استمر في كتابة أزجاله إحساسا منه بمعاناة شعب بأكمله وليس معاناته الشخصية فقط.
عام 1932 تم ترحيله من فرنسا إلى تونس، ثم تنقل بين لبنان وسوريا، لكن السلطات الفرنسية كانت وراءه فقررت إبعاده عن سوريا إلى إحدى الدول الأفريقية، وبينما كانت الباخرة التي أقلته في طريقها إلى منفاه الجديد توقفت بميناء بورسعيد بمصر، فانتهز الفرصة وهرب من السفينة إلى أرض مصر مرة أخرى. صادف ذلك الوقت جلوس الملك فاروق على العرش بعد وفاة أبيه الملك فؤاد، ونصحه صديق له بتقديم التماس بالعفو للملك الجديد. بالفعل أصدر الملك أمرا بالعفو عنه، ثم استقر أمر بيرم في مصر بعد ذلك خاصة بعد ثورة 1952، وعمل كاتبا بالصحف المصرية مثل أخبار اليوم، والمصري والجمهورية.
من أعمال بيرم التونسي الشهيرة أغاني أوبريت شهرزاد التي ألفها محمد تيمور ولحنها صديق عمره الشيخ سيد درويش، وله أعمال إذاعية منها سيرة " الظاهر بيبرس" و أوبريت "عزيزة ويونس" من تلحين الشيخ زكريا أحمد.
أما أكبر أسباب شهرته فهي أنه كون مع الشيخ زكريا وأم كلثوم ثلاثيا غنائيا لا يبارى. وغنت له أم كلثوم خلال الأربعينات عدة أشعار ظهرت في أفلامها السينمائية، وساهم ذلك كثيرا في انتشار أوسع لبيرم وأشعاره عبر الأقطار العربية.
كتب بيرم التونسي العديد من أغاني الثورة المصرية في الخمسينات، وهو صاحب الأغنية الشهيرة "أجمل أعيادنا الوطنية". ومن ألحان رياض السنباطي غنت له أم كلثوم بعد وفاته الأغنية الصوفية "القلب يعشق كل جميل" عام 1970. وفي عام 1960 منحه الرئيس جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية في الأدب، ثم حصل على الجنسية المصرية لكنه توفي بعد ذلك بقليل في 5 يناير 1961 عن 68 عاما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق