أثرت ألحان سيد درويش بعمق فى وجدان الناس لعشرات السنين، ولا زالت موسيقاه تحدث نفس الأثر كلما سمعت، إذ أنها تميزت بالجمع بين الأصالة والتعبير. ولا شك أن فن سيد درويش جزء من تراث أمة، وجزء من كفاح شعب متصل من أجل آمال تحققت وآمال لم تتحقق بعد. وتمر السنوات فتزيد ألحان ذلك الفنان بريقا وتكشف فيه أبعادا جديدة تجد فيها الأجيال الشابة معينا لا ينضب من الفكر والفن والخيال.
سيد درويش |
ويختلف سيد درويش عن غيره من الفنانين الذين خلدت أعمالهم بعد وفاتهم في أن موسيقاه قد تعرضت لفترة طويلة من الطمس والإخفاء، زادت على ثلاثة عقود، أعقبت وفاته المفاجئة عام 1923 ولم يتجاوز عمره 31 عاما. لكن ألحانه عادت بقوة إلى الساحة وانتشرت حتى في أجيال لم تعاصر سيد درويش. وعودة ذلك الفن، بعد رحيل صاحبه الطويل، مؤشر واضح ليس فقط إلى جودة ذلك الفن بل إلى كونه معبرا عن أفكار ومشاعر الناس، وآمالها وأحلامها.
اقرأ يا شيخ قفاعة - لحن سيد درويش
جمع سيد درويش بين ثقافتين في آن واحد، ثقافة حيه الشعبي وثقافة مدينته التي جمعت ثقافات أوربا في ذلك الوقت حيث كان نصف سكانها من الأوربيين. وهكذا جاء فنه أيضا، أصيلا شعبيا في ثوب عصري. انتمى سيد درويش إلى أسرة بسيطة في حي شعبي بمدينة الإسكندرية حيث ولد في 17 مارس 1892، لكن ذلك الحي العجيب "كوم الدكة" كان يطل من أسواره وفتحاته الضيقة على أحياء الوسط الراقي الذي كان مدخله إلى عالم آخر كبير. لم يكن بالحي مدرسة رسمية، فقط كتاب لتحفيظ القرآن الكريم، بينما تحيط به مدارس أجنبية وقصور ومسارح وشركات وقنصليات، كما حفل بالأغنياء والأوربيين ممن انتعشت أعمالهم في الإسكندرية منذ القرن التاسع عشر.
لحن السقايين - سيد درويش
حاول الشيخ الصغير العمل بالفن في مدينته لكن الشيخ سلامة حجازي يكتشف فيه موهبة فذة ويدعوه للانتقال إلى القاهرة حيث ينتظره هناك الكثير. انتقل سيد درويش إلى القاهرة عام 1917 ليقوم بتلحين أول رواية مسرحية له "فيروز شاه"، وفي عام واحد، بحلول 1918، أصبح سيد درويش العملاق الذي نعرفه، فقام بتلحين لمعظم الفرق المسرحية التي تنافست للحصول على ألحانه.
بعدها بعام واحد أيضا في 1919 أصبح سيد درويش أيقونة الثورة الشعبية المصرية التي قادها سعد زغلول، بما قدمه من أناشيد وأغاني ألهبت حماس الناس. وكان نصوص معظم رواياته ضد الاستبداد والاستغلال والفرقة والتمييز. وما يثير العجب أن تلك الألحان انتشرت في جميع أنحاء البلاد قبل عصر الإذاعة والتليفزيون والإنترنت.
كان عمالقة الفن في ذلك الزمان، مثل كامل الخلعي وداود حسني، يحرصون على حضور بروفات ألحان سيد درويش، عرفانا منهم بموهبته وتطلعا إلى التعرف ابتكاراته وتجديداته. أما محمد عبد الوهاب، الذي احترف الغناء وهو تحت العشرين، فقد صرح بنفسه أنه أصابه الذهول لدى سماعه في لحن "أنا المصري" في بروفة أوبريت "شهرزاد" وغادر المسرح يجري منبهرا بما سمع، لا يدري ماذا يفعل.
أنا المصري - لحن سيد درويش
أمد سيد درويش بالتطور الذي أحدثه في الموسيقى والتلحين من جاءوا بعده بمدد لم ينفد لعشرات السنين. وكانت الموسيقى قبله لقرون عديدة تهتم بالشكل والزخرفة دون اهتمام بالجوهر والمضمون. وكان الفن التركي والأندلسي، السائدان في ذلك الوقت، منفصلان تماما عن واقع الحياة والناس، فضلا عن انفصال الألحان عن النصوص. وقد عمد سيد درويش إلى مدرسة جديدة تماما هي "المدرسة التعبيرية"، التي تقدم ألحانا تعبر بدقة عن الكلمات، في المعنى والصورة والحركة، وأثرى سيد درويش أعماله بالأصول الشعبية، كما استخدم أساليب حديثة في التلحين.
وصف سيد درويش بالعبقرية، ولم يكن ذلك من فراغ:
· لم يتجاوز عمره الفنى ست سنوات من 1917 حتى 1923
· مازالت أعماله تردد بعد قرابة قرن من الزمان
· أدخل المدرسة التعبيرية في الموسيقى لأول مرة
· استطاع أن يجعل من الموسيقى الشعبية فنا قوميا راقيا
· جعل الغناء للجميع بعد ما كان مقصورا على المطربين المحترفين
· تأثر به كل ما جاء بعده من الفنانين
وعن موهبة وجدارة، استحق سيد درويش لقب "أبو الموسيقى المصرية" وارتفع إلى مكانة عالية في الشرق تضاهي مكانة "بيتهوفن" في الموسيقى الأوربية
روابط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق