هل تصدقون، أن طارق بشير و أحمد الصالحي و يارا صلاح الدين و مارتن ستوكس من فرقة مقام أوكسفورد، سجلوا غناء و عزفاً على أسطوانات شمعية؟ سجلوا على أجهزة فترة الـ ١٩٠٠م؛ كيف أمكنهم ذلك وما أهمية حكاية كهذه؟
في هذا الحوار، سنتكلم عن تجربة أصدقائنا الموسيقيين، و فائدة هذه التجربة للمجتمع الموسيقي و للمهتمين والسميعة لهذا العيار من الموسيقى و هذا النوع من وسائط التسجيل وبالتحديد ما يسمى بالأسطوانة الشمعية أو السيلندر أو أسطوانات أديسون نسبة لمخترعها أو ما يسمى بالكباية في مصر أو "أم قلاص" في الكويت.
ف: تجربة التسجيل على كباية فضلاً عن الأسطوانة القديمة شيء لا يمكن أن يخطر على بالنا اليوم. لقد تجاوزنا هذه التقنية بأكثر من مائة عام. لم يكن من السهل أن نتصور أن هذا أمر ممكن وفي متناول اليد. ما أصل هذه الحكاية؟
ط: بطبعي، كنت أستكشف في الإنترت و التسجيلات القديمة العربية والأجنبية، و رأيت رجلاً بجوار بوق و يتكلم، و عندما شاهدته و استمعت إليه، و كان ذا لهجة انجليزية، و تتبعت الأمر و رأيت أن هناك تجارب سابقة للتسجيل على الكباية و أمام البوق، فما كان مني إلا أن تواصلت معه و كلي حماس للتجربة.
ف: يا عيني.
ط: و حدثته عن التسجلات القديمة في مصر والشرق و اهتمامنا بها و بالموسيقى المشتركة، و أبدى اهتماماً وعزمت على التجربة وخشيت أن يكون الموضوع غاية في التعقيد بحكم الندرة و قدم التقنية. لكن الأمور ظهرت على غير ذلك.
ف: و علامَ اتفقتما؟
ط: اتفقنا على تسجيل مجموعة من الأعمال المنوعة وطلبنا منه نسختين لكل عمل نسجله، و في النهاية كانت هناك نسخة احتفظت بها و نسخة احتفظ بها الصالحي، من كل عمل. و تسجيل نسخة إضافية ليس بأسهل و أنقى من إنتاج نسخة أخرى بعزف و أداء جديد.
أ: كان هدف النسختين في البداية، اختيار النسخة الأفضل للنشر. و هكذا، أصبح في النهاية عندي نسخة وعند طارق نسخة، كل نسخة فيها تسجيل مختلف.
ثلاث كبايات محفوظة
ف: كيف تصف التجربة.
ط: كان انتقالاً عبر الزمن إلى الماضي، الرجل و كل ما عنده من كنوز و جو محيط كأنه في القرن التاسع عشر ولا نجد أي زخم لآثار تقنية حديثة.
ف: كيف اتفقت و الأصدقاء على العمل؟
ط: أخبرت أحمد و الأصدقاء و رأينا أنها فكرة رائعة و تجربة فريدة، حتى لو لم تنته بالنجاح، فهي متعة لأنفسنا. كان أخبرنا المهندس أن كل كباية قادرة على احتواء تسجيل مدته لا تزيد عن دقيقتين وعشرين ثانية.
ف: بالنسبة لك أحمد؟
أ: بالنسبة لي، كنت مهتماً بكيف سيكون الصوت. هو سؤال كان حاضراً دائماً و ها هي الفرصة لكي نعرف أكثر.
ف: و بدأ تحدٍ جديد.
ط: بدأنا في طرح الأسئلة الحقيقية على أنفسنا و بدأنا نلمس التحدي الحقيقي. ماذا سنسجل في الدقيقتين وفي هذه الكباية؟ دور "في البعد يا ما"؟ أم سماعي أم بشرف أم ماذا؟ هذه الأدوار من نهايات القرن التاسع عشر، لم يكن من السهل وضعها في وقت قصير كهذا. في تسجيلاتها القديمة، كان يكتفى بجزء منها.
ف: نعم، كيف سيكون ذلك محصوراً في حدود هذا الوقت القصير؟
أ: نعم، هكذا اخترنا أعمالاً أقدم منها، من جيل سابق لتطور الأدوار، بحيث يمكن أن نقدمها كاملة في هذا الزمن المحدود و بالمعايير الصوتية المحدودة للكباية. حتى "الدور" كان يجب أن يحكم كاملاً في دقيقتين وعشرين ثانية.
ط: نعم، ولابد من ترك ثوان في البداية وثوان في النهاية في آخر الوقت من التسجيل. بقي لنا دقيقتان و خمسة عشرة ثانية، عملياً.
ف: نعم.
ط: وكان لابد من اختيار أعمال تلائم هذا الوقت يمكن أن تبدأ وتنتهي في كباية واحدة. و اخترنا أعمالاً تتسم بالقصر من ليس من أواخر القرن التاسع عشر، مثل أدوار داود حسني و إبراهيم القباني و محمد عثمان، كالأجزاء التي وصلتنا من عبده الحامولي، لكن ما سبقها من أدوار. حاول أن تتخيل معي الجوّ التقني في وقتهم، كأنه نفس شعور الصعود إلى القمر، حين سجلوا لأول مرة، هو نفس الشعور الذي اعترانا.
ف: صحيح!
ط: كان الحامولي سجل أجزاء من دور وختمها من عنده. لكننا اخترنا أن نسجل أعمالاً كاملة فرض علينا السيلندر أن نقدمها بشكل كامل ومختصر.
كبايات
ط: نعم. و هي أدوار بصراحة يمكن أن نغنيها ساعة أو نختصرها في دقيقتين. و هكذا جلسنا نفكر في ما نختار من قطع و أغان.
أ: اخترنا أعمالاً جاهزة عندنا للتسجيل لتفادي أي صعوبات إضافية. لم يكن جديداً للمجموعة إلا تحميلة الصبا. كان أمامنا وقت محدود لكل عمل و تسجيل فوري ولا فرصة لمعاودة التسجيل.
ف: أها. و ماذا واجهتم أيضاً من صعوبات.
ط: من التحديات الأخرى أيضاً، ضرورة العزف بسرعة. مثلاً، اخترنا مربع البياتي بحكم قصره، لكن بالسرعة المعتادة لا يمكن أن يكون في دقيقتين و ربع. و لذلك كان لابد أن نعزف أكثر سرعة من المعتاد. فتخيل أن يسمع هذا التسجيل أحد معاصري اليوم فيقول هذا مُسرَّع وليس طبيعياً في العزف، لكن الواقع أن عزفنا كان سريعاً للضرورة التقنية وليس مُسرّعاً!
ف: نعم. وأيضا؟
ط: وحتى الدور الذي غنته يارا "من يوم عرفت الحب"، قدمنا فيه المحطات المعروفة ولم نختصر و فقط حذفنا التكرارات.
ف: التسجيل كان مباشراً على الكباية وليس عبر وسط آخر، صح؟
ط: طبعاً، تماماً كما كان يسجل في حقبة الأسطوانة – الكباية!
ف: وكيف كنتم تديرون الوقت في التسجيل الفعلي.
أ: بروفاتنا و تمريننا كان هدفها الأساسي السيطرة على الوقت.
ط: طبعاً، كنا في الليلة قبل التسجيل تمرنّا و استعددنا للتسجيل. اشتغلنا على كل الأعمال المختارة و كانت كلها محسوبة تماماً لتناسب زمن الكباية. في وقت التسجيل، كان أمامي مُؤقِّت في هاتفي، والمهندس يعطيني إشارة مع تنزيل الإبرة و أقول: "أوكسفورد مقام" و نبدأ مباشرة بلا عدّ.
ف: يا سلام.
ط: و قد لا ندخل تماماً مع بعضنا وقت العزف في التسجيل الرقمي، لكن، و يا للعجب، تجدنا دخلنا مع بعضنا في التسجيل على الكباية. هذه التقنية كما رأيتها، تخفي أي نوع من الشوائب إن وجدت.
ف: الآن أنتم خضتم هذه التجربة العملية. هل توقعتم في البداية أن يخرج الصوت و الأداء "قديماً" أم كان هناك افتراض أن العازفين كانت آلاتهم ليست بجودة آلات اليوم ولا وفرة الصيانة والخبرة والاستوديو ألخ؟
ط: و قد لا ندخل تماماً مع بعضنا وقت العزف في التسجيل الرقمي، لكن، و يا للعجب، تجدنا دخلنا مع بعضنا في التسجيل على الكباية. هذه التقنية كما رأيتها، تخفي أي نوع من الشوائب إن وجدت.
ف: خير ما نرجوا من تقنية.
ط: و أحياناً، اعتماداً على خامة الصوت، تجد مثلاً التسجيل يأخذ العُرَب في الصوت، ويُعمّقها أكثر. لقد كانت أكثر قوة و كثافة من التي غنيت بها وقت التسجيل. و حتى عندما كنت أغني في الجوابات، لم أكن في أحسن أحوالي، ولم أكن ملعلعاً، لكن اللعلعة كانت على أحسن ما يكون على الكباية.
ف: بجد؟
ط: نعم، وبالتالي، ربما نسأل عن لعلعة المنيلاوي و عبدالحي حلمي، مالذي كان فيها طبيعياً و ما الذي كان منها محسناً لسبب
تقني. هذا يجلب لنا الكثير من الأسئلة. هناك من كان عجوزاً وقت التسجيل!
ف: فعلاً.
أ: لكن، أتصور أن ذلك ليس بعيداً جداً عن الواقع المسجل. في النهاية، العازف الضعيف سيكون ضعيفاً، لن تسعفه آلة التسجيل لدرجة كبيرة.
ف: و العازفون الذين سجلوا على الوسائط القديمة، سجلوا أيضا فيما بعد على وسائط أحدث و أكثر دقة.
أ: ولاحظنا أن العازف اللامع فيما بعد، كان لامعاً في التسجيلات القديمة.
ف: و من خلال التجربة؟
أ: سجلنا مثلا أصوات على الكباية. و عندما سمعها الأصدقاء لم يروا فروقات كبيرة، بل كانت قريبة من الواقع لأداء الأًصوات. رأينا قليلاً من الأثر على العود و قليلاً من الخشخشة.
ط: حتى صوت يارا مثلاً، ليس هو طابع صوت قديم، هو صوت حداثي.
ف: نعم.
ط: و تسمع تسجيل يارا على الكباية، كأنه صوت من أصوات المطربات القديمات و مقارب جداً لأصوات العوالم التي وصلتنا قبل قرن. صوت فيه النظارة والأنوثة وصوت فيه طابع طربي عرفت به تلك الأصوات.
ف: ملاحظات مهمة. و كم احتجتم من أسطوانات لتخطئوا وتجربوا؟
ط: لم نضطر للتجريب كثيراً ولم نفسد أسطوانات. كان المهندس جرب معنا أسطوانة واحدة لتجربة الوضع الأمثل للتسجيل. هو كان قد اتفق معنا على مجموعة معدودة من الأسطوانات التي يمكن أن نستخدمها.
أ: الحقيقة، عندما عزفنا لم نخطئ و المهندس استغرب، قال: أول مرة أقابل مجموعة لا تواجه مشكلة مع التسجيل. و الأخطاء التي حدثت كانت بسبب أن الإبرة تعطلت ولم تكتب مثلاً. هي أخطاء تقنية تلك التي حدثت.
ف: هناك اطلاع و وعي واستعداد عندكم.
أ: هذه أمور مغيبة عن هذا الجيل الذي لا نتصور أن يشترط عليه وقت محدود قصير و عدد قليل من المحاولات للتسجيل.
ف: نعم. و ماذا عن طريقة الجلوس و الخطأ من هذه الناحية؟
أ: نعم. هذه مشكلة واجهناها فعلاً، وبدأنا بعزف قطعة موسيقية، بلا غناء، و لا إيقاع لأنه لن يكون مناسباً أو واضحاً. المشكلة كانت عندما كنا سنغني. نحن أربعة أشخاص نسجل معاً.
ف: نعم.
أ: طارق مثلا، عندما كان سيغني، كان لا بد أن يكون عوده واضح و غناؤه واضح. و كنت بينه وبين البوق بالكمان.
و القانون كان لابد أن يكون بعيداً، لأنها آلة كبيرة و تحتاج مساحة.
ف: هل كان هناك تأثير على المزاج وتوتر بسبب كل هذه التعقيدات؟
ط: الحقيقة، أننا كنا مسعدين لأن نشتغل بلا خطأ وتمرنا جيداً قبل تلك الليلة لأننا نعرف أن فرص الخطأ لن تساعدنا. ثم إننا قد جربنا عمل بروفة واحدة مع مؤقت أمام البوق وهكذا كنا مستعدين جيداً للتسجيل حينها. وهكذا لم يكن هناك قلق حقيقي.
ف: الآن أنتم خضتم هذه التجربة العملية. هل توقعتم في البداية أن يخرج الصوت و الأداء "قديماً" أم كان هناك افتراض أن العازفين كانت آلاتهم ليست بجودة آلات اليوم ولا وفرة الصيانة والخبرة والاستوديو ألخ؟
أ: كان تصوري أن هذا التسجيل سيغير من طبيعة الصوت أكثر مما سمعنا بعد تجربة التسجيل. و هناك أمر يمكن أن يغفل عنه مهم جداً هو أٍسلوب العزف. تكنينك العزف الذي نعزف به اليوم، حتى لو قلنا أننا نعزف بأسلوب قديم، هو في النهاية أسلوب معاصر. يبقى هناك فارق.
ف: تقصد تقنيات استخدام الأقواس التي تبدو أكثر تقدما مثلاً؟
أ: نعم، حتى الأبعاد النغمية والعُرب وتقنيات الغناء. ثم إن التسجيل ليس تقليدياً مائة بالمائة، هناك استخدام للكهرباء في التسجيل على مكينة التسجيل. دوران القرص كان كهربائياً.
ف: نعم.
أ: نعم، هناك ثبات لم يكن متوفراً في كل الأسطوانات القديمة.
ف: نعم.
أ: وكان المهندس معيّراً الجهاز بحيث لا يعبث بالسرعة. ما سجلناه خرج بنفس السرعة الحية على الكباية في النهاية.
ف: نعم.
أ: وخرجت التسجيلات بشكل نظيف مقارنة بالتسجيلات القديمة.
ف: والخشخشة؟
أ: كان ينقل التسجيل بواسطة رأس إلكتروني و هذا يخفف من الخشخشة بشكل ظاهر.
ف: ماذا اختلف أيضاً في هذه التجربة عن تسجيلاتكم العادية؟
أ: اختلف طريقتنا في الجلوس وقد كنا مرتبين حسب الحساسية لصوت الآلة الموسيقية التي نعزف و لو عزف كل عازف بالطريقة العادية، فلن يتمكن صوت آلته من الظهور بشكل جيد في التسجيل. كل العزف كان قوياً، أقصد عالياً و بزخم.
ف: وكيف نضمن في تسجيل قديم أن نتأكد من تصفية تسجيل ليخرج لنا صوت البشر الطبيعي والآلة بشكل طبيعي – في ضوء تجربة تسجيلكم؟
ط: بصراحة، استخراج صوت البشر الطبيعي من خلال التجربة التي عملناها، يبدو مستحيلاً. لخص لي الأمر، الخبير الذي اشتغلنا معه في كلمة. قال لي، التسجيل الرقمي، هو بمثابة صورة رقمية تظهر لك كل تفاصيل الوجه بتجاعيده وألوانه ودرجات الحرارة اللونية و النسيج. أما تسجيل السيلندر على البوق النحاسي وباستخدام الإبرة أو التقنيات القديمة عموماً، فهو بمثابة لوحة تشكيلية أو تصوير بكاميرا ذات تقنية قديمة. الشكل هو نفس الشكل العام بين الصورة الرقمية واللوحة التشكيلية أو الصورة المأخوذة على كاميرا قديمة. لو طالعنا بورتريه لموزارت، وأحضرنا موزارت الحقيقي، لرأينا موزارت يختلف في الحقيقة عن البورتريه الذي رسم له.
ف: نعم.
ط: لو أخذنا الصوت النسائي، مثلاً، صوت يارا، سنرى أنه مختلف كلياً عن صوتها في التسجيل الرقمي في عصر المايكوفونات، لو تذكرنا غياب المايكرفون في عصور التسجيل القديمة، سنجد فرقاً شاسعاً بين صوتها الطبيعي و صوت تسجيل الكباية.
ف: نعم. هل فكرتم في تجربة عملية في تحديد الفروقات في الجزء المفقود من التسجيل الرقمي – الكامل حسب مقاييس اليوم – بحيث يصبح تسجيل في مستوى الكباية؟ يعني طريقة نجد بها البكسلات المفقودة بينهما؟
ط: فعلاً. لدينا تسجيل رقمي لنفس التسجيلات التي خرجت على الكباية. هي تسجيلات حية من وقت التسجيل على الكباية.
ف: صحيح.
ط: فبودي أن آخذ هذين التسجيلين، الرقمي و الكباية، إلى صديق خبير في الصوتيات والتردات، خلال الإسبوعين أو الثلاثة القادمة. و سؤالي له، هو: هل هناك طريقة تجعلنا نأخذ تسجيل لدور "جددي يا نفس حظك" و نقارن الموجات في التسجيل الرقمي بتلك في التسجيل من الكباية، و نحاول أن نجد الترددات المفقودة في الكباية؟ هل يمكن من خلال هذه التجربة أن نخرج بطريقة أو وسيلة أو برنامج يحاول أن يعيد ترميم تسجيلات الكبايات و يقربها بما هو مفقود إلى شيء يشبه المستوى الرقمي ولو قليلاً؟
المجموعة تسجيل دور جددي يا نفس حظك
الاستماع إلى دور جددي يا نفس حظك من الكباية
الدور منقولاً من الاسطوانة عن طريق رأس إلكتروني
ف: تجربة غاية في الأهمية. كأننا نأخذ الصورة القديمة أو البورتريه و نحولها إلى مستوى الصورة الرقمية الحديثة.
ط: نعم، بالضبط. نجرب و نرى النتائج. لا أدري إلى أين يمكن أن تأخذنا هذه التجارب.
ف: و عن محدودية إمكانيات الفنوغراف والكباية.
ط: طبعاً، و كنت أخذت بعض هذه التسجيلات لمهندس صوت، و قال لي لست خبيراً بمثل هذه التسجيلات القديمة، لكن كان عنده من الواضح من خلال ما ظهر على الشاشة له، أن الفونوغراف ذي الكباية، يكون في أحسن حالاته عندما يسجل أصواتاً متوسطة المدى.
ف: أها.
ط: يعني مثلا، عندما كنت مع الصالحي و يارا و مارتن، عند المهندس نسجل على الكباية، قال لنا: لن يكون هناك إيقاع أو كونترباس. لو حضر الإيقاع فسوف يؤثر على كل الأصوات الأخرى. و حتى عندما جلسنا نسجل، كان صوت العود هو أقل الأصوات وضوحاً.
ف: صحيح.
أ: طارق عندما غنى كان قريباً من البوق، أما يارا فكانت تغني داخل البوق تقريباً.
ط: يعني، حتى أنا كنت واقفاً أسجل متكئاً تقريباً على البوق.
ف: فعلاً، أنت عملياً كأنت داخل البوق ..
ط: بينما مارتن، كان جالساً بقانونه على بعد قدمين تقريباً وراء البوق.
ف: و هل هذا كان كافياً لوضوح الصوت؟
ط: لا، لقد اضطررت لتغيير أسلوب عزفي على آلة العود، تماماً، كما ذكر الصالحي في الملاحظة عن تكنيك العزف.
ف: وضح أكثر يا طارق. كيف أصبح الأسلوب العزفي عندك؟
ط: لقد استغنيت عن تقنية الفرداش وأصبح عزفي استكاتو. كنت شديد الضرب على العود. و ربما لا يكون ذلك واضحاً في تسجيل الكباية ويكون واضحاً في التسجيل الرقمي.
ف: يعني هذا ينبه لأمر مهم جداً. هو أن ما نسمعه في تسجيلات الفونوغراف قد لا يكون على حقيقة ما كان يعزف، مما لم يظهر في التسجيلات بسبب حدود إمكانياتها.
ط: نعم. هذه يطرح سؤال مهم. هو هل ما كنا نسمعه من عزف العود عند سيد السويسي هو أسلوبه الواقعي في العزف؟ ثم هل هذا عزفه الحقيقي أمام البوق؟ هل التقنية العزفية التي نسمعها في التسجيل هي ما كانت تستخدم أم تحورت بسبب إمكانيات التسجيل الضعيفة تلك؟ أنا مثلاً، لا أعزف العود بطريقة ضرب قوية، حادة أو استكاتو، في عزفي المعتاد، لكن تقنية التسجيل اضطرتني لذلك.
ف: هذا فعلاً يلقي الضوء على كثير من المسلمات والافتراضات.
ط: هذه تقنيات هدفها تغليظ ومحاولة إيصال صوت العود للتسجيل قدر الإمكان وقد واجهنا التحدي عملياً.
ف: حتى أن هناك تصور عن العزف القديم، أنه لِمَ أنتم شغوفون به و نحن نعزف أفضل منهم اليوم و الصوت عندنا أفضل والآلات الموسيقية المستخدمة؟ لِمَ كانت تبدو آلاتهم و نغماتهم و زخارفهم "رخيصة" أو "شعبية" أو "بدائية" و هلم جراً من مثل هذه العبارات والاتهامات؟ الواقع أن التجربة العملية أتت على النقيض، و تعلم الذين لم تتدرب آذانهم على استماع هذا النوع من التسجيلات على وضع هذه الظروف في الحسبان و إعادة فهم الصوت القادم من ذلك العصر لكبار العازفين والمطربين.
ط: نعم.
ف: أعني، عندما نسمع صوت كمنجة الصالحي في مربع البياتي مثلاً، على الكباية، ونسمعه عند سامي على الأسطوانة، نرى أن صوت كمنجة الصالحي و أسلوب عزفه و مخارج الصوت مثلها مثل ما عند سامي، مع فارق التقنية، حيث سامي كان تسجيله على أسطوانة وليس على كباية.
مربع البياتي منقولاً عن الكباية و السرعة عزفية
ط: بالضبط.
ف: هذه دليل علمي وبرهان على أن التقنية القديمة كانت تحد من مقدار المعلومات و البكسلات التي تصلنا من التسجيل الحي، ولذلك كان هناك تقارب كبير بين العود و الكمان والقانون، هنا و هناك، قبل قرن.
ط: تماماً. و المهندس أخبرنا، أن التقنية لا تستطيع أن تتحمل آلات كثيرة و أصوات أكثر مما كان معنا. ولذلك، غاب الإيقاع في تسجيلات الفرق القديمة لأن التقنية لا تتحمل الإيقاع.
ف: أسطوانات الكبايات نذكر منها أسطوانات عبده الحامولي في حدود 1895م.
ط: نعم، نلاحظ قلة الآلات المرافقة للمطرب فضلاً عن قلة وضوحها.
ف: ما هي الكباية التي سجلتم عليها؟
ط: سجلنا على تقنية مثل تلك التي سجل عليها عبده الحامولي. الكبايات قد لا تكون واحدة. سجلنا على كباية لا تسع أكثر من دقيقتين وعشرين ثانية.
ف: كذلك ملاحظة صوت الهواء أو الخشخشة، هل هو صوت احتكاك الإبرة أثناء التسجيل؟
ط: نعم، كانت هناك حساسية في كتابة الإبرة على وسط التسجيل.
ف: هل كان هناك تضخيم للصوت في تسجيل الكباية في عصرها؟
ط: لا، لم يكن.
ف: كانت أصواتكم تبدو بعيدة وحادة و حتى أصوات الآلات و عليها بهارات من الخشخشة.
ط: نعم.
ف: ما عمر الجهاز الذي استخدم للتسجيل؟
ط: هي مكينة تم ترميمها و صيانتها. الفونوغراف مكينة أديسون من سنة 1901م و آلة التسجيل هي من سنة 1902. و المنهدس لا يشتغل بآلات جديدة صنعت على طراز قديم. بالنسبة لبقية المواد، الوسط شمعي مثل ما استخدم في حوالي 1895 و قدر الإمكان كل شيء كان مثل ذلك العصر من تقنية.
ف: والتسجيل والنقل إلى رقمي؟
ط: كان هناك لاقطة قريبة جداً إلتقطت الصوت من مشغل أديسون إلى التسجيل الرقمي.
ف: بالأمس كنا نلجأ لمقارنة صوت مطرب سجل على آخر عهد الأسطوانات بصوته في أول عهد الإذاعة وتسجيلات البكرات مثلاً ونحاول أن نستشف بعض الأجوبة. هكذا، سنكون أكثر ثقة بالإجابات بعيداً عن التخمينات والتخرصات و هي حيلة العاجز، على عكس ما تجربون الآن.
ط: نعم. لقد اكتشفنا مثلاً أن القانون آلة محورية في التسجيلات هذه. في بشرف مربع البياتي كنا نراقب المظاهر الحيوية التي تبينت في التسجيل في عزف هتروفوني بين جملة الكمان والقانون. هذا يرتكز هنا وذلك هنا و يتقابلون في طريقهما. القانون كان هو الذي يمسك نبض العزف طيلة الوقت في مثل هذه التسجيلات. العود كان إيقاعياً طيلة الوقت.
ف: أها.
ط: الذي لاحظته أيضاً، أن الإيقاع لو تقدم أو تأخر، هذه التقنية تميل إلى التصحيح ولا تظهر الأخطاء ولا الشوائب.
ف: نعم. و انعكاساً على التسجيلات القديمة؟
ط: نعم، فنقول أن التسجيلات القديمة ربما وصلتنا بشوائب أقل بسبب هذه الميزة في تسجيل الكباية. و ربما لم يكن الأداء القديم – أحياناً – في منتهى الكمال الذي نسمعه في بعض التسجيلات!
ف: عجيب.
ط: حتى في اليوم الذي سجلنا فيه، لم يكن صوتي في أحسن حالاته. ولكن ظهر بشكل أفضل بكثير من الواقع. لم يظهر في التسجيل أي أثر من هذا.
ف: آلة تسجيل تستر العيوب.
أ: آلة التسجيل، نقلت جزءاً من الواقع، من الصوت والأداء، و غاب عنها جزء لم تستطع التقاطه.
ط: مؤكد.
ط: الرجل الذي عملنا معه، كان منشغلاً بمثل هذه الآلات والتقنيات و عنده مكتبة ضخمة غير عادية و استعداد تقني وخبرة و هو مهتم بهذه الأمور منذ الثمانيات. بيته عبارة عن مخزن كامل لأدوات و كبايات من 1890.
ف: نعود و نقول: ما هي الأسئلة التي خرجتم بإجابات لها بعد خوض هذه التجربة؟
أ: أولاً، طبيعة العزف والتكنيك. لم يكن الأمر هو اختلاف الوسيلة المستخدمة في التسجيل، في المقارنة بين البوق واللاقطة – المايكروفون. نحن نعزف بطريقة معاصرة اليوم حتى لو كنا نعزف قطعاً قديمة. فارق واضح عندما نقارن بين هذه التسجيلات التي عملناها على الكباية وتسجيلات الأقدمين. ثم إن الأوتار تختلف أيضاً، لو ألقينا نظرة على فوارق الآلات الموسيقية.
ف: يعني، ربما نكون أكثر حظاً من القدماء في الآلات و الأوتار إلخ؟
أ: الحقيقة، بالنسبة للآلات، آلاتنا قد تكون قديمة مثل آلاتهم. الاختلاف قد يكون في الأوتار مثلاً و طبيعة العزف.
ف: وصيانة الآلات؟
أ: نعم، هناك بعض العازفين القدامى الذين كانوا يسافرون و يحضرون الآلات والاكسسوارات و يصونون آلاتهم و هناك غير ذلك.
ف: و فروقات أخرى؟
أ: يعني مثلاً، لنأخذ دور "جددي يا نفس حظك" ونقارنه مع أي تسجيل له قديم، سيكون هناك من الواضح أن هذا تسجيل معاصر للأذن المدربة و أنه لمؤدين معاصرين.
ف: و أيضاً.
أ: هناك أيضاً أمر مهم هو أننا حظينا بتسجيل سمعناه مباشرة أو من تشغيل للاسطوانة الكباية. الأسطوانات الكبايات التاريخية، سيكون من حسن حظنا لو وجدنا بعضها لم يتم تشغيله أكثر من عشر مرات. هناك عمر افتراضي لهذه الأسطوانات و كلما تم الاستماع لها، تأثرت وانعكس ذلك على جودة الصوت الخارج منها.
ف: و نظافة الصوت والخشخشة والتضخيم؟ سمعنا صوت الهواء في تسجيلاتكم – الأثر الميكانيكي.
أ: نعم هو صوت الإبرة وقت التسجيل و وقت الاستماع.
ف: هل هناك خطة للتسجيل على نوع آخر من الوسائط القديمة كالأسطوانة التي جاءت بعد الكباية؟
ط: لم لا. الخطة في البال، وهي تجربة لا يمكن الاستغناء عنها وهي ستكشف أجابات أكثر لكثير من الأسئلة عن تسجيلات الموسيقى القديمة في العالم كله وموسيقانا.
ف: نعم، أسطواناتنا، الغالبية العظمى منها 78 لفة و هذا سيفتح الباب للمقارنة بين الكباية والاسطوانة و هاتين و التسجيل الرقمي و التسجيلات التي جاءت بعدها من بكرات وشرائط و هكذا.
ط: نعم.
ف: أحمد، ماذا عن تجربة التسجيل على الأسطوانات، بعد الكباية لو حصلت لكم فرصة؟
أ: أتوقع أن يكون هناك فرق وخصوصاً لو كانت تقنية الكهرباء مستخدمة ويعتمد على طبيعة الإبرة و المادة المستخدمة للتسجيل، هل هي بمواصفات القديمة جداً أو التي تطورت و دخلت عليها تحسينات.
هذه تجربة فريدة، نحتاج مثلها و هي تجربة عملية أكثر فائدة من التخمين والتصور للأشياء بلا أدلة ملموسة، نهنئ عليها فرقة مقام أكسفورد التي تتحفنا بالجديد دوماً و أسعدتنا كثيرا فيما ما مضى و توجدت نجاحاتها بمثل هذا النشاط و صدور ألبومها الجديد. نتطلع لمزيد من الإنجازات والنجاحات لهذه المجموعة و مجموعات النشاط الموسيقي الجاد في هذا المجتمع الموسقي الواعد بموسيقى شرقية عظيمة واثقة.
::. فاضل التركي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق