أوركسترا موسكو الفيلهارمونيك بقيادة المايسترو يوري بوتناري
Tchaikovsky, Symphony 6, 2nd mov, Yuri Botnari, MPO
لماذا اخترنا الحركة الثانية من هذه السيمفونية الكبيرة؟ وما علاقتها بكلاسيكيات الموسيقى العربية؟
تعبر هذه الحركة أكثر
ما يمكن عن التسمية التي أطلقها تشايكوفسكي بنفسه على سيمفونيته، العاطفية. بعد
أيام قليلة من عرضها الافتتاحي في موسكو عام 1893 توفي المؤلف العظيم، ثم بعد بضعة
أسابيع ألصقت بها تسمية فرنسية ظلت تلازمها لليوم، وهي باثيتيك، بمعنى القاتمة أو
المتشائمة، على غير الحقيقة، فالموسيقى بها من الإثارة العاطفية ما يكفي لتصديق
وصف المؤلف، كما أن وفاته ليست مبررا منطقيا للتشاؤم
وربما جاء هذا الوصف نتيجة التغيير الانقلابي الذي أتى به تشايكوفسكي في بناء السيمفونيات، فقد أتى بالنهاية السيمفونية التقليدية، القوية والمبهجة عادة، في ختام الحركة الثالثة وليس الرابعة كالمعتاد، بينما أخذت ألحان الرابعة، الأخيرة، تتفكك وتتهاوى وتضعف حتى الصمت التام في النهاية، عكس المتوقع. يفاجأ الجمهور الذي يبدو على وشك الانفجار بموجة عارمة من التصفيق في ختام الحركة الثالثة بأن الموسيقى لم تكتمل، وعند الاستماع للنهاية يجدها قد أخذته إلى العدم أو المأساة، فيحل الإحباط محل الإثارة ويحل الأسف محل الأمل، ومن هنا جاء العنوان الفرنسي Pathétique Symphony
ويقول المحللون أن أسلوب تشايكوفسكي هذا لا ينفصل عن نظرته العامة للحياة، فهو يعبر، في هذه وفي غيرها، عن الصراع غير المتكافئ بين الحياة والموت المنتصر دائما والنهاية الحتمية لكل حياة. وعلى هذا اعتبر أن هذا الأسلوب أكثر واقعية ومنطقية من النهايات السعيدة المتفائلة دائما. لقد مات هذا المفكر بعد تسعة أيام فقط من عرضها، ووصفها بأنها أفضل ما أبدع، وأنه قد أودع فيها كل خبراته
ملامح فنية
نأتي للجانب الفني في الحركة الثانية .. إنها على إيقاع غير تقليدي هو 5/4 أي 5 أزمنة صغيرة، نوار، في الوحدة الموسيقية أو المازورة. كثيرون كتبوا عن هذا الإيقاع، منهم من أعجب به ومنهم من رأى فيه "حجلة" لا لزوم لها وخروجا عن انتظام الفالس الثلاثي الشائع. فعادة يكون الإيقاع على وحدات ثنائية أو ثلاثية الزمن أو مضاعفاتها، لكن 5/4 يشذ قطعا عن المألوف وعن المنتظم
ولكن نعتقد أن هذا كلام نظري، ولنستمع أولا كيف استخدم تشايكوفسكي هذا الإيقاع. إنه يبني 4 جمل تؤلف لحنا كاملا، يتكون كل منها من 8 أزمنة صغيرة، النوار، يتبعها زمنان صامتان فيصبح المجموع 10/4. الواقع أن هذا هو الزمن الحقيقي الذي استخدمه المؤلف، وإن حاولت عد الأزمنة مع سماع اللحن لن تجد فرصة لتقسيم الجمل عند الزمن الخامس، فقط تكتمل كل جملة عند الزمن العاشر، أي أن الزمن الحقيقي عشري وليس خماسيا
لنرجع في الزمن إلى أصل الزمن العشري 10/4. إنه ليس أوربيا ولا أمريكيا ولا روسيا، بل شرقي عربي تواجد في عشرات الموشحات العربية والأندلسية، مثل الموشح الشهير "لما بدا يتثنى"، وأحيانا يكون 10/8 إذا استخدمنا أنصاف الأزمنة، كروش، والاختلاف فقط في السرعة، كما في الفالس الثلاثي يكتب أحيانا 3/4 وأحيانا 3/8، وما فعله تشايكوفسكي هو إدخاله إلى الفن السيمفوني لأول مرة، ومعروف عنه انفتاحه على كافة الفنون والثقافات من آسيا إلى أوربا إلى أميركا
السيمفونية
السادسة - تشايكوفسكي - الحركة الثانية - البداية |
السيمفونية
السادسة - تشايكوفسكي - الحركة الثانية - اللحن الأساسي |
وليست هذه المرة الوحيدة التي نلمح فيها ملامح عربية في موسيقى تشايكوفسكي، فعلى سبيل المثال مؤلفه "مارش سلاف" يرتكز أساسا على مقام شرقي تماما هو مقام نوا أثر غير المستخدم في الغرب، وهو نفس المقام الذي استخدمه الموسيقار الفرنسي جورج بيزيه في الحركة الهادئة من افتتاحية كارمن دون مبرر واضح يصلها بما سبقها من موسيقى صاخبة تصف مصارعة الثيران الأسبانية، وما أشرنا إليه في مقال سابق عن موسيقى مالاجينا الأسبانية للموسيقار الكوبي "إرنستو ليكيونا"، الذي استخدم تراكيب وإيقاعات أندلسية ليضع موسيقاه الخالدة "مالاجينا" على أصل أندلسي، وكذلك تأثر موتسارت بموسيقى الأندلس
والأمثلة كثيرة التي تدل على أن الفنون لا تعرف حدودا ولا قيودا وأن التأثر والتعلق بقيم موسيقية مختلفة عن التقليدي هو شيء طبيعي أثبته التاريخ، بل ربما كان المزج والتهجين ضروريا للتجديد والتطوير، د.أسامة عفيفي، السيمفونية العاطفية، تشايكوفسكي
كذلك فإن الشرقية بمفهومها العام، الميلودي والإيقاع، والتي تتركز في بلاد فارس وتركيا وبلاد العرب والأندلس، انتشرت في جميع بلاد الشرق، وتأثر بها الموسيقيون الروس وإلى جانبهم في آسيا الآذريون والكازاخيون والأرمن والشيشان وغيرهم، كذلك اليونان والأسبان وغيرهم في أوربا. ولا ننسى أن كثيرا من أعمال تشايكوفسكي مبني اساسا على موسيقى الفولكلور الروسي. ولم يكن تأثرا من جانب واحد فقد حدث تبادل ثقافي بين هذه الشعوب بحيث أعجبت الشعوب العربية مثلا بسيمفونية شهرزاد لريمسكي كورساكوف، شرقية الموضوع والموسيقى، وكذلك بأعمال رحمانينوف وخاتشادوريان وغيرهم. والواقع أن من يستمع للحركة الثانية من سيمفونية تشايكوفسكي السادسة كأنه يستمع إلى موسيقى عبد الوهاب أو أبو بكر خيرت
روابط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق