شهد تلحين القصيدة عصره الذهبي بداية من ثلاثينات القرن العشرين حتى آخر القرن وسط قفزات هائلة شهدتها جميع الأشكال الغنائية الأخرى على الفنانين الرواد
بدأ تطوير ألحان القصائد على يد سيد درويش ثم محمد عبد الوهاب ثم رياض السنباطي واتخذت القصيدة بفضلهم مكانة عالية على قمة الهرم. وبينما قدم عبد الوهاب قصائده للجمهور قدم رياض ألحان قصائده بصوت أم كلثوم
دفع هذا المد القصائدي ملحنين آخرين لتلحين القصيدة باعتبارها شكلا راقيا من الغناء حتى عم غناء القصائد وشاع وساهمت القصيدة في تشكيل الوجدان العربي بطريقة لم يستطعها أي شكل آخر
تنوعت موضوعات القصائد بشكل كبير وتباينت بين العاطفي والديني والوطني والتاريخي، وارتبط كثير منها بالشعور المجتمعي العام فضلا عن الحس الفردي بحيث تكفي إذاعة قصيدة ما لاستنفار الحس القومي والشعور بالهوية لدى الشعوب العربية خاصة في أوقات الشدائد والأزمات
ظل الحال كذلك حتى اختفي الفنانون الكبار من الساحة في أواخر القرن، ثم بمقدم القرن الواحد والعشرين تراجع إنتاج القصائد بشدة حتى اختفت القصيدة نفسها من الساحة الغنائية
ما الذي حدث وأدى بنا إلى هذه النتيجة؟ سؤال يبحث عن جواب. وفي معرض البحث عن إجابة نواجه سؤالا آخر يقول كيف ولماذا تصدرت القصيدة فنون القرن العشرين؟ فربما نجد في عرض أسباب نجاحها إجابة للسؤال الأول
لماذا نجحت القصيدة في القرن العشرين
يرجع نجاح القصيدة إلى عدة عوامل أهمها ما يلي
1. عبور حواجز اللهجات المحلية
2. التعبير عن قضايا الأمة العامة
3. سيادة استخدام الفصحى في الخطاب المجتمعي الإعلامي والثقافي
4. الجمع بين الشعر القديم التراثي والشعر الحديث
5. شعراء وفنانون ذوو ثقافة عالية وتمكن من اللغة
1. عبور حواجز اللهجات المحلية
لا شك تشكل اللهجات المحلية حواجز عالية بين المجتمعات العربية وعبئا كبيرا على إمكانية نجاح أي عمل فني على مستوى الوطن العربي، فليس من المتوقع انتشار أغنية ما بلهجة خليجية أو مغربية في باقي الدول العربية بنفس انتشارها في موقعها الأصلي، لكن القصيدة بإمكانها التحرك بسهولة في أي بقعة عربية. وإضافة إلى صعوبة تتبع الألفاظ والمعاني هناك بعض المفردات أو الاصطلاحات في اللهجة المحلية لقطر ما لها معنى عكسي أو مدلول سلبي في أقطار أخرى مما يكرس الحواجز بين المجتمعات. هذا لا يحدث مع اللغة الفصحى بل تتفق كل الأقطار على معنى واحد لنفس الكلمة أو العبارة
2. التعبير عن قضايا الأمة العامة
يحتاج التعبير عن قضايا الأمة العامة مثل الموضوعات القومية أو الدينية إلى وسيلة عامة أيضا تحمل الرسالة إلى الجمهور، وليس هناك أفضل من القصيدة للتعبير عن الموضوعات الجادة التي تشترك كل المجتمعات العربية في الاهتمام بها ولتوصيل نفس الرسالة إلى كل الشعوب العربية، فعندما تذاع قصيدة فلسطين لعبد الوهاب أو سلوا قلبي لأم كلثوم نجد الشعور قد توحد تلقائيا ونسي كل منا القطر الذي ينتمي إليه مؤقتا ليتجه بإحساسه إلى الشعور القومي العام
3. سيادة استخدام الفصحى في الخطاب المجتمعي الإعلامي والثقافي
هذا العامل من أهم الأسباب التي تمهد الطريق لاستقبال القصائد والإقبال عليها من طوائف الشعب مهما تباينت مستوياتهم الثقافية. فالإعلام الذي يذيع القرآن الكريم ونشرات الأخبار بالعربية الفصحى يصنع الجو الملائم لكي تأخذ القصيدة مكانة مميزة بين أشكال الفن الغنائي لارتباطها بالنص المقدس أو النص الرسمي
وإذا تابعنا نشرات الأخبار الآن في القرن 21 سنجد نشرات كاملة تذاع بالعامية وبرامج لا تستخدم غير اللهجة المحلية. أضف إلى ذلك كتبا تصدر بالعامية وإعلانات تخاطب الجمهور في الطرق وعلى شاشات التليفزيون وعبر الإنترنت وأجهزة الهاتف المحمول وعلى صفحات الجرائد. هذه الاتجاه إلى استبدال الفصحى بالعامية كان مستهجنا بشدة في الماضي بل لم يكن يجرؤ أحد على سلوكه
وفي أوقات صعبة مثل أزمة وباء كورونا هذه الأيام مع الأسف يخاطب الإعلام العربي، الرسمي وغير الرسمي، شعوبه باللهجة المحلية بعبارات وشعارات وإرشادات لمواجهة الوباء قد تفهم خطأ في بعض البلاد، بينما لا يمكن حدوث ذلك مع عبارة واحدة فصيحة لا تحتمل الخطأ توجه إلى المستمع والمشاهد في أي مكان
يلاحظ أيضا أن نجاح القصيدة في المجتمعات العربية حدث في فترات انتشار الأمية بينما تراجع إنتاج القصائد مع تراجع نسب الأمية في العالم العربي، وتدل هذه المفارقة على ترابط عكسي مريب بين انتشار القصيدة وانتشار الأمية يشير إلى أن الفرد الأمي كان يتذوق القصائد ويستوعبها ويحبها بينما لم يقبل عليها الفرد المتعلم
وهذا يقودنا مباشرة إلى أهمية استخدام الفصحى في الخطاب المجتمعي الإعلامي والثقافي حتى يعي كل فرد أن هذا هو الأصل والنموذج الأمثل. كما يشير هذا الترابط العكسي إلى أن تعليم اللغة العربية قد هبط مستواه، بالإهمال أو بالإنكار، بحيث لم تحدث القفزة التعليمية أثرا يذكر في زيادة الإقبال على اللغة الفصحى أو استخدامها، بل ربما ساهمت في الابتعاد عنها
وهذا يقودنا مباشرة إلى أهمية استخدام الفصحى في الخطاب المجتمعي الإعلامي والثقافي حتى يعي كل فرد أن هذا هو الأصل والنموذج الأمثل. كما يشير هذا الترابط العكسي إلى أن تعليم اللغة العربية قد هبط مستواه، بالإهمال أو بالإنكار، بحيث لم تحدث القفزة التعليمية أثرا يذكر في زيادة الإقبال على اللغة الفصحى أو استخدامها، بل ربما ساهمت في الابتعاد عنها
4. الجمع بين الشعر القديم التراثي والشعر الحديث
لم يفرق الفنانون في تقديمهم للشعر الغنائي بين القديم والحديث، فكما استمعنا إلى قصائد شوقي وحافظ إبراهيم وعلي محمود طه ونزار قباني وغيرهم استمعنا أيضا إلى قصائد أبي فراس الحمداني وعمر الخيام وصفي الدين الحلي . يرجع الفضل في هذا التواصل إلى الفنانين بالدرجة الأولى فهكذا جاءت اختياراتهم وهكذا كانوا يشعرون بأن الحاضر ما هو إلا امتداد للماضي وأن الأمة الحالية تحتفظ بنفس قيم ومعاني الأمة السابقة. ويعود الفضل إليهم لأنه لولا اختيارهم وتقديمهم لظلت أشعار القدامى حبيسة الكتب والمكتبات ربما للأبد، ولا حاجة بنا للقول أن هذه الخاصية لا يمكن أن تتوفر لأي لهجة محلية
5. شعراء وفنانون ذوو ثقافة عالية وتمكن من اللغة
لنتأمل من كان يكتب الشعر الغنائي أو القصيدة في القرن العشرين .. إنهم مجموعة من صفوة المثقفين بل والأعلى ثقافة في المجتمع كله. ولنقارن هذا بمن يكتب الأغنية المحلية اليوم، ويكفينا متابعة ما ينتشر هذه الأيام من أغاني لنعلم مدى ثقافة كتاب الأغنية. وعلى الجناح الآخر للأغنية نجد فناني القرن العشرين على مستوى عال في اللغة والثقافة العامة، ولولا ذلك لما استطاعوا تذوق وتفهم الشعر أصلا فضلا عن تلحينه
ألحان القصائد
لم نتطرق في هذا البحث إلى الألحان أو القيمة الفنية لألحان القصائد رغم أهمية ذلك في انتشار القصيدة في القرن العشرين، والسبب أن ألحان الأشكال الأخرى غير القصيدة اكتسبت قيمة عليا أيضا نظرا لكفاءة وموهبة الفنانين القائمين عليها، وتظل قيمتها اللحنية محفوظة بصرف النظر عن محتواها النصي. هذا لا ينفي أن جمال الألحان كان من أهم الأسباب التي تضاف إلى عوامل نجاح القصيدة في القرن العشرن، لكن تلك الألحان كانت ولا تزال سببا هاما في انتشار جميع الأشكال الغنائية. بهذا يتساوى لحن القصيدة مع لحن أي شكل آخر في القيمة ويبقى الفارق الأساسي وهو استخدام الكلمة الشعرية بدلا من الكلمة العامية
ولمتابعة سير لحن القصيدة يمكن الرجوع إلى مقالنا السابق د. أسامة عفيفي في هذا المجال بعنوان "القصيدة" أقدم الأشكال الغنائية العربية وأرقاها
روابط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق