كلاسيكيات الموسيقى العربية * أرشيف * استماع *  تحميل *  نقد فنى *  تحليل موسيقى* أفلام * صور *  تسجيلات * كلاسيكيات الموسيقى العربية
كلاسيكيات الموسيقى العربية * الخمسة الكبار * سيد درويش * محمد القصبجى * زكريا أحمد * محمد عبد الوهاب * رياض السنباطى * نجوم الغناء العربى * أم كلثوم * عبد الوهاب * فيروز * عبد الحليم * ألحان التراث * موشحات * قصائد * أدوار * كلاسيكيات الموسيقى العربية

الأربعاء، 23 يناير 2019

أول ملحن لأم كلثوم - أحمد صبري النجريدي قبل 95 عاما

أحمد صبري النجريدي هو أول ملحن لأم كلثوم وأول من وضع لها ألحانا خاصة بها بعد أن كانت تغني القصائد القديمة المتداولة
هذا العام 2019 يسجل مرور 95 عاما على أول لحن لأم كلثوم عام 1924 ولا يزال صوتها يملأ الأرجاء العربية، ليس كمجرد صوت وإنما علامة كبرى في مسيرة الشرق الفنية ساهم في تألقها كوكبة من كبار الفنانين بألحان خالدة .. 
ترى كيف كانت البداية؟ وهل كانت تنبئ بالمنزلة العالية التي وصلت إليها كوكب الشرق محاطة بحب الجماهير الكبير عبر عدة أجيال حتى الآن؟ كانت البداية مع الفنان الذي صنع أول خطوة في طريق أم كلثوم الطويل .. أحمد صبري النجريدي

اختلفت إحصاءات ألحان النجريدي لأم كلثوم حسب مصادرها ولكنها تقع جميعا بين 13 و 17 لحنا ما بين القصائد والطقطوقة والمونولوج. وأهم ما في رحلته مع أم كلثوم في بداية حياتها الفنية 1924 - 1927 أنها منحتها جرأة أكبر للتعامل مع الملحنين الآخرين واحتراف الغناء بصفة عامة
كان "الدكتور" أحمد صبري موسيقيا إلى جانب مهنته كطبيب أسنان، تعرف إلى أم كلثوم في بداية استقرارها بالقاهرة ووجد في صوت أم كلثوم ما شجعه على التلحين لها 
تساءل الزميل والصديق العزيز الدكتور عصمت النمر عن سبب ذكر أم كلثوم له بالموسيقي "الهاوي"، وكذلك وصفه القصبجي، رغم جودة ألحانه وحداثتها، والسر أنه كان الوحيد بين الفنانين الذي لم يكن يرتاد الأفراح والليالي يتكسب من الغناء أو العزف مثل أم كلثوم وسائر الفنانين الآخرين، الكبار منهم والصغار، أي لم يكن يعتمد على الفن كمصدر عيشه لأن لديه مهنة أخرى تكفيه ذلك. 
ولا يمكن أن يكون هذا الوصف بقصد أنه لم يصل فنيا إلى مستوى الاحتراف وإلا لما قبلت أن تغني من ألحانه كل هذا الكم، ولما تذكر القصبجي ألحان النجريدي بالمرة وهو الذي تطوع بذكر قائمة طويلة لأعمال النجريدي في حديث صحفي رغم أنه لم يسأل عنها 
في ذلك الوقت كانت "سلطانة الطرب" منيرة المهدية تتربع على عرش الغناء في مصر وخلفها تاريخ فني قوي ليس بصوتها فقط بل أيضا بفرقتها التي حملت اسمها وبتقديمها أوبريتات النابغة سيد درويش على المسرح. وأحاطت ذلك كله بشبكة علاقات قوية مع أصحاب النفوذ والباشوات. كان من الصعب على أم كلثوم منافسة منيرة التي امتدت نفوذها إلى كل شيء، لكنها وجدت طريقا غير المسرح وغير الجمهور، فقد بدأت تغني للعائلات في حفلاتها الخاصة، وشيئا فشيئا اتسعت دائرة أخبارها وأعمالها.
من بين ألحان النجريدي لأم كلثوم قصائد مثل "كم بعثنا مع النسيم سلاما"، و"مالي فتنت بلحظك الفتاك" وهي ألحان عرفت بجودتها العالية ونسب تلحينها أحيانا بالخطأ إلى الشيخ أبو العلا محمد

روت بعض المصادر حكايات عن علاقة عاطفية جمعت بين أم كلثوم والطبيب الملحن، وأن هذه العلاقة التي لم تتوج بالزواج كانت سببا في ظهوره وكذلك اختفائه. لكن هناك أدلة قوية تفيد بأن أحمد صبري النجريدي كان ملحنا محترفا لا يعتمد على مطربة بعينها لأنه لحن لمطربة القطرين فتحية أحمد 7 ألحان منها 6 قصائد، حسب المعلومات المتاحة، ولحن للمطربة نادرة، وهي من أشهر مطربات عصرها وكانت تشتغل بالتلحين أيضا، وذكرت المطربة نجاة علي أنها تلقت دروسا في الموسيقى والغناء على يد كل من داود حسني، د. صبري النجريدي، صفر علي، ومحمد القصبجي بتوصية من شركة أوديون التي تبنت صوتها (سماعي/ آخر ساعة)
وقبل هذا وذاك لا يمكن لشخص ما أن يتصدى لمهمة التلحين، ويبرع فيه، دون أن يكون قد درس وتدرب لسنوات طوال وعاش حياته فنانا يهوى الفن والإبداع. الخلاصة أنه لا أم كلثوم هي التي صنعت النجريدي، ولا كان هو أول من توقفت عن التعامل معه، فقد فعلت ذلك مع رواد كبار مثل محمد القصبجي وزكريا أحمد.
والآن لندع هذا جانبا ونتأمل ماذا صنع النجريدي وماذا قدم من فن، ولنبدأ بالاستماع إلى ألحانه قبل أي حديث، فهي ألحان رفيعة المستوى تستحق الاستماع والتقدير، على الأقل بمقاييس عصرها، ويسرنا بعد ذلك تقبل آراء المستمعين جمهورا كانوا أونقادا 
نقد ألحان النجريدي
1. المسجل من ألحان النجريدي
المسجل والمدون والواصل إلينا من ألحان أحمد صبري النجريدي لأم كلثوم يظهر في هذه القوائم الثلاث لأم كلثوم وفتحية أحمد ونادرة. لكنا نود الإشارة إلى أن اختلاف العدد تسبب فيه تعدد تسمية نفس العمل بأكثر من اسم، ومن ثم تم بالخطأ جمع أسماء مختلفة لنفس الأعمال على أنها أعمال أخرى، وبجدول أم كلثوم 4 أغاني من هذا النوع فيكون العدد 13 أغنية فقط لأم كلثوم معظمها من كلمات أحمد رامي. إلى هذا يحتمل وجود أعمال أخرى لدى هواة الفن القديم، لكن من غير المحتمل وجود أعمال غير مسجلة على اسطوانات حيث كانت الاسطوانات الوسيلة الوحيدة لتسجيل الصوت في ذلك الوقت 

2. أسلوب النجريدي بين الأساليب السابقة واللاحقة
أضفنا إلى جدول الألحان خانة خاصة بالأسلوب، والمقصود بها تشابه الأسلوب، وليس الألحان، مع فنانين آخرين، خاصة أن من بعض من أوردنا أسماءهم هنا من الفنانين الكبار كانوا مازالوا يتحسسون طريقهم إلى الريادة والأستاذية في العام 1924، هذا باستنثاء بعض الاقتباسات من سيد درويش سنذكرها لاحقا. وربما العكس أصح وهو أن ألحان النجريدي التي سجلت على اسطوانات بأصوات رائعة مثل أم كلثوم وفتحية أحمد ونادرة قبل ظهور أعمال ذات شأن أو اسطوانات مسجلة لهؤلاء الكبار تعني أنه سابقهم فنيا كما كان سابقهم زمنيا، وقد استمعوا لألحانه قبل أن يستمع إلى ألحانهم، ومن هؤلاء محمد عبد الوهاب، محمد القصبجي وزكريا أحمد

3. آثار فن النجريدي في الأعمال اللاحقة
يمكن بالاستماع إلى ألحان النجريدي تتبع آثار ألحانه في ألحان الأساتذة اللاحقين. على سبيل المثال أسلوب جديد تماما يستخدمه النجريدي في لحنه لفتحية أحمد "أشكي منك"، مقام عجم، 1924، يتبناه القصبجي في مونولوج إن كنت اسامح لأم كلثوم من مقام قريب عام 1928، وليس واضحا تماما لماذا اشتهر مونولوج القصبجي وتوارى مونولوج النجريدي. ونسمع مقطعا في "الفل والياسمين" لأم كلثوم، مقام نهاوند، 1925، يستخدمه عبد الوهاب في أغنية "حسدوني" من نفس المقام عام 1928. أما زكريا أحمد فنجد تشابه الأسلوب واضحا في عدة ألحان مثل "أنا على كيفك" و"شفت بعيني" لأم كلثوم و"القلب كان ماله ومالك" لنادرة. والواقع أن الشيخ زكريا لم يبدأ التلحين لأم كلثوم إلا عام 1931 وفي أعمال الاثنين متشابهة الأسلوب ميل إلى الأسلوب القديم الذي يرجع إلى محمد عثمان وجيله

4. تأثر النجريدي بمن سبقوه
يمكن أيضا تتبع آثار الأساتذة السابقين في ألحان النجريدي مثل سلامة حجازي والشيخ أبو العلا محمد في القصائد، وسيد درويش في الأدوار والألحان المسرحية
وبينما تؤكد الملاحظات السابقة موهبة صبري النجريدي الأصيلة نود الإشارة إلى سيد درويش بصفة خاصة والذي توفي عام 1923. مع سيد درويش التأثر يصبح منطقيا لأن الشيخ سيد سابق في الزمن وفي العمل، كذلك الحال مع سلامة حجازي والشيخ أبو العلا. من اقتباسات النجريدي الواضحة من سيد درويش لحن موشح "زارني المحبوب"، مقام حجاز كار، على لحن "يا كروان" من نفس المقام، واقتباس مطلع موسيقى أغنية "أشكي منك" لفتحية أحمد من لحن سيد درويش "عشان ما نعلا"، بالإضافة إلى مقدمات أدوار سيد درويش التي نقلت كما هي 

5. تشابه المقدمات مع مقدمات ألحان سابقة
الإشارة إلى تشابه ألحان مقدمات الأغاني بالذات لا تعني بالضرورة الاقتباس، حيث كان هناك تقليد قديم بضرورة تقديم أي عمل فني بواسطة "مقدمة" أو ما يطلق عليه "الدولاب". والمقدمة كانت شكلا من أشكال الموسيقى البحتة يستعمل في التمهيد للمقام الغنائي في اللحن القادم، واستخدمت الموشحات أيضا والليالي لنفس الغرض 
كانت المقدمات سابقة الصنع والتجهيز، وبمرور الزمن وكثرة استعمالها لم يعد بالإمكان تتبع مؤلفها الأصلي، بمعنى أن الملحن يمكن أن يستخدم مقدمة ما مقام كورد مثلا ليست من تأليفه ليستهل بها أغنية من لحنه من نفس المقام. لم يجد أي من الفنانين إشكالا كبيرا في استخدام المقدمات على هذا النحو بل إن منهم من ألف مقدمات ليستخدمها غيره مثلما فعل كامل الخلعي الذي ضمن كتابه "الأغاني" عدة مقدمات من مقامات مختلفة. لكن الأكثر شيوعا كان صياغة مقدمة على شكل المقدمات المعروفة من مقام مختلف
كدليل عملي على استقلال المقدمة جاهزة الصنع عن اللحن الأساسي بإمكان المستمع اكتشاف الاستهلال بنفس المقدمة تقريبا في قصيدتين لفتحية أحمد من ألحان النجريدي هما "غلب الشوق مغرما" و"فراق الروح" ولا فرق بين المقدمتين إلا في درجة الركوز، ولهذا لا يمكن الجزم في ذلك العصر بأن مقدمة ما نقلت عن لحن بعينه

6. ألحان متفردة
من ألحان النجريدي أيضا ما هو متفرد في اللحن والأسلوب بمعنى أنه لا تظهر بها آثار من سابقيه ولا أخذت عنه من اللاحقين. ويلاحظ أن أعماله المتفردة في اللحن والأسلوب اشتملت على قالب المونولوج والطقطوقة والقصيدة، أي أنه لم يتميز في أحد الأشكال فقط دون غيره، وهذا أيضا مما يثبت موهبته وقدرته على صياغة أشكال مختلفة من الألحان بأسلوبه الخاص. ولكن يمكن إضافة صفة "التفرد" إلى قائمة أطول من ألحانه التي لم يستمد أسلوبها من الأقدم وبذلك تصبح أسلوبا جديدا في وقتها وإن انتقل بعد ذلك إلى أعمال فنانين لاحقين
نأخذ مثالا من الأعمال المتفردة للنجريدي موتولوج "الحب كان من سنين"، فنلاحظ أن أسلوب التلحين أميل إلى المدرسة التعبيرية حديثة العهد في ذلك الوقت ولم يمض على وفاة مؤسسها سيد درويش غير عام أو عامين

7. انعكاس لفن المرحلة
نصل من هذه الملاحظات إلى أن ألحان صبري النجريدي عكست بدقة فن المرحلة التي ظهر فيها وهي مرحلة مميزة في مسيرة الفن، رغم قصرها، حيث أنها توسطت بين عصر سيد درويش وعصر محمد عبد الوهاب والقصبجي وزكريا في تلحين الأشكال المتعددة للأغنية، لكنها في القصائد حملت كل مظاهر لحن القصيدة التقليدي الذي شكله سلامة حجازي في مطلع القرن العشرين وسار على نهجه الشيخ أبو العلا، وكذلك عبد الوهاب إلى 1933، العام الذي بدأ فيه تجديد لحن القصيدة، ثم شاركه في ذلك رياض السنباطي في الأربعينات

8. صوت أم كلثوم
يتضح من الاستماع إلى صوت أم كلثوم في ألحان النجريدي، مقارنة بأصوات أخرى قديرة غنت من ألحانه في نفس الوقت مثل فتحية أحمد ونادرة، أن صوت أم كلثوم كان أصفى وأنقى في خامته كما أن أداءها كان أقرب للتقيد باللحن وأكثر دقة في تفاصيله، رغم أن هذا لا ينفي تمتع الأصوات الأخرى بميزات مختلفة

9. أداء الفرقة
عند الاستماع إلى أداء الفرقة الموسيقي، على بساطة تكوينها، أنها تمتعت بمستوى احترافي عال من الأداء والالتزام بحدود اللحن دون زخرفات أو ضوضاء زائدة، ولا بد أن الملحن له دور في ذلك الانضباط، وهذا يحسب للنجريدي بجانب موهبته كملحن

10. جودة التسجيلات
مقارنة بالصوت المسجل عن اسطوانات أخرى نكتشف جودة عالية للصوت تبعث على الدهشة لاحتفاظ تلك المسجلات بوضوحها ونقائها لمدة تقترب من المائة عام. وإذا علمنا أن كثير من اسطوانات تلك الفترة فقدت جودتها مع مرور الزمن وأن الاسطوانات المسجلة قبلها بسنوات قليلة لا تتمتع بهذه الجودة نستنتج أمرين، أولهما تطور صناعة الاسطوانات في غضون سنوات قلائل من زمن سيد درويش إلى فترة النجريدي، وثانيهما حرص الطرفين، المطرب والملحن، على اختيار أفضل ما يمكن من وسط لتقديم إنتاجهما. ومن الأدلة على تطور صناعة الاسطوانات ظهور شركة أسمت نفسها "اسطوانات من غير خشخشة"!

11. ظهور النجريدي في فترة عصيبة من تاريخ مصر
يرجح أن الذي ظلم النجريدي ليس ألحانه بأي حال، ولا أم كلثوم كما ذكرنا، ولكن أغنية واحدة من كل هذا الكم والفن ظلمتهما معا هي "الخلاعة والدلاعة مذهبي". فقد أساء كلاهما اختيار العنوان والموضوع وكان هذا كفيلا بوسم المرحلة كلها بخاتم الخلاعة و"قلة الحياء" إن جاز التعبير. أغنية أساءت لتلك المرحلة رغب الاثنان في إسدال الستار عليها نهائيا لأنهما لم يتداركا الأمر في وقته قبل أن يرفضها المجتمع بل ويظل يحكي عنها أجيالا حتى الآن كمثال لهبوط الكلمة والمضمون في ذلك الزمن القاسي الذي لم تسلم منه مطربة أسطورية كأم كلثوم ولا ملحن نابغة مثل النجريدي. تدخل وقتها أحمد رامي ليغير الكلمات إلى "اللطافة" بدلا من "الخلاعة" لكن المحاولة لم تنجح فقد جاءت بعد فوات الأوان

كذلك لم يسلم من تيار ذلك الزمن فنانون كبار نعتبرهم من الرواد مثل زكريا أحمد في "ارخي الستارة" ومحمد عبد الوهاب في "فيك عشرة كوتشينة"، ومحمد القصبجي في "بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة". الوحيد الذي أفلت من هذا التيار الجارف كان رياض السنباطي، ليس مباشرة بسبب شخصيته الانطوائية المحافظة بل بسبب أنه لم يلحق بذلك الزمن أصلا ولم يتواجد فيه على الساحة 

اعتذر عبد الوهاب لاحقا عن سابقة أعماله الوحيدة بسلسلة هائلة من الأعمال الوطنية الخالدة، واعتذرت أم كلثوم بسلسلة دينية رفيعة المستوى من أشعار شوقي وألحان السنباطي، واعتذر القصبجي بما قدمه من أعمال راقية، واعتذر زكريا أحمد بلسانه في حديث للإذاعة المصرية قائلا إنها كانت فترة سوداء في تاريخه وتاريخ الفن وأنه اضطر اضطرارا إلى قبول أعمال دون المستوى اللائق، أما منيرة المهدية وعبد اللطيف البنا فقد طواهما الزمن ولم يعد يسمعهما أحد

قطعا ليست صدفة أن تكون جميع هذا الأغاني الهابطة لنفس المؤلف رائد هذا التيار ومحاميه الأول في مصر محمد يونس القاضي. رائده لأنه صاحب أكبر وأشهر باقة من هذا النوع من الأغاني، ومحاميه لأنه دافع عنه بدعوى أنه أكثر حشمة من أغاني الخمسينات! وعين المهزلة أنه تم تعيينه رقيبا على المصنفات الفنية يمرر ما يشاء ويرفض ما يشاء رغم كونه رائد كتابة الأغاني المبتذلة. كيف انتشر ووصل إلى كل هؤلاء النجوم في وقت واحد؟ وكأنه يعمل كالفيروس فيشغلهم جميعا لحسابه؟
هنا نصل إلى قلب الحقيقة وهي أن هذا الموقف ربما لم يكن بمحض إرادة الرجل الذي يمكن أن يكون قد ناله بعض الظلم في ذلك، ولو أنه ارتضى أن يحول موهبته في الكتابة إلى أداة هدم للمجتمع بدلا من أن تكون أداة نقد أو ارتقاء، وإنما كانت إرادة سياسية من إدارة الاحتلال البريطاني والحكام الموالين لها في ذلك الوقت تضغط على الجميع، وكان ضمن أسلحتها إغراءات شركات الاسطوانات وغيرها

تلك هي الفترة التي بدأ فيها طمس أعمال المجدد والناقد الوطني سيد درويش عمدا عقب وفاته المفاجئة عام 1923، وبعد أن أغلق مسرحه بالقوة خلال حياته وأثناء عرض رواياته كما شهدناه في فيلم سيد درويش الذي كتب قصته محمد مصطفى سامي. في نفس السياق اقترح ضابط الاحتلال على سيد درويش مهددا إياه عندما اتهمه بإثارة الجماهير بتلحينه لنشيد "قوم يا مصري" من كلمات بديع خيري، أن يقوم بتلحين أغاني التسالي والفرفشة بدلا من الأغاني الوطنية حرصا على حياته ومستقبله. وكما جاء في نفس السيناريو رفض صاحب شركة الاسطوانات الخواجة "ميشيان" مطلقا تسجيل أغاني سيد درويش لاعتراضه على الكلمات وطلب منه نفس طلب ضابط الاحتلال، لكن سيد درويش رمز الشعب وروح ثورته رفض رفضا قاطعا هذه الضغوط والإغراءات

وهي نفس القوى التي عينت مصطفى بك رضا مديرا لمعهد الموسيقى ثم مديرا لبرامج الإذاعة لاحقا واشتكى كل الفنانين في مصر من سوء اختياراته وسوء إدارته ومعاملته، وهو الذي أخذ على عاتقه مهمة إقصاء فن سيد درويش من الساحة وربما دفنه نهائيا

وهو نفس الزمن أيضا الذي انتشرت فيه الحانات ومحلات الخمور ونوادي القمار بأمر وتسهيل مباشر من سلطات الاحتلال بعد هدوء ثورة 1919 ووفاة سيد درويش
وهي فترة من أحلك أيام مصر شخص أمراضها وسجلها الأديب نجيب محفوظ في روايته الشهيرة "القاهرة 30"، يقصد 1930، أي العام الذي نضج فيه المخطط الخبيث واستوى وقبض على مفاصل الحياة الاجتماعية في مصر، بنشر الابتذال والتفسخ والرذيلة حتى تبدو أشياء عادية في المجتمع دون حرج، بادئا من صف النجوم إلى صفوف الجماهير، بقصد تغييب الضمير الشخصي والجمعي لمنع إعادة إنتاج ثورة 1919 وتحدياتها بأي شكل

وفي عام 1932 أقيم مؤتمر الموسيقى العربية الأول تحت رعاية الملك فؤاد وحضره مئات من الموسيقيين المصريين والعرب والأجانب، وتم تسجيل عشرات الأعمال ومنح محمد عبد الوهاب لقب "مطرب الملوك والأمراء". وانفض المؤتمر دون أي ذكر لسيد درويش رائد النهضة الفنية وصاحب الفضل على الجميع، والذي ترتفع منزلته في الموسيقى العربية إلى منزلة بيتهوفن في الموسيقى الغربية

ومع شديد الأسف يوجد اليوم من يدافع عن أشهر مؤلف للأغاني المبتذلة في تاريخ مصر، محمد يونس القاضي، ويحاول تكريمه بادعاء أنه صاحب نشيد بلادي، النشيد الوطني المصري، وعشرات نصوص أخرى من ألحان سيد درويش، وهذه في الحقيقة أكذوبة كبرى لعدة أسباب
·       أن الرجل عاش بعد ظهور النشيد عام 1919 مدة 50 سنة حتى وفاته عام 1969 لم ينطق خلالها بكلمة واحدة ليقول أنه صاحب النشيد. وجميع هذه الدعاوى بدأت في الظهور بعد وفاته بعشر سنوات على الأقل عن طريق أناس غيره بطريق القيل والقال وليس بأدنى حد من التوثيق، وتحديدا بعد قرار الرئيس السادات باعتماد نشيد بلادي السلام الوطني المصري واتفاقية السلام مع إسرائيل
·       أن النشيد ألفه ولحنه سيد درويش وهو ليس النص الوحيد الذي ألفه، فهو مؤلف جميع أدواره العشرة وغيرها كثير. وكلمات النشيد الأساسية تعود أصلا إلى الزعيم مصطفى كامل وهو القائل بالنص "بلادي بلادي .. لك حبي وفؤادي"، في إحدى خطبه. وأهم من هذا أن العبقرية في النشيد منبعها اللحن وليس الكلمات، وهذا هو حال جميع أعمال سيد درويش، وهو أول ملحن للأناشيد الوطنية. وإذا افترضنا تلحين نفس الكلمات بواسطة أي ملحن من ذلك العصر فلن يخرج اللحن عن موشحات كامل الخلعي أو طقاطيق داود حسني أو أدوار إبراهيم القباني. ومن الأكاذيب التي نشرت حول "زوروني كل سنة مرة" على سبيل المثال أنها من تأليف يونس القاضي رغم أن الأغنية ذاعت وانتشرت في الإسكندرية عام 1914 وعمر سيد درويش 22 عاما أي قبل أن يعرفه أحد أو يصادقه أو يكتب له كما يزعمون
·       إن أسرة سيد درويش قامت بتوثيق جميع مؤلفات جدهم وأعطت لكل مؤلف حقه بذكر اسمه إلى جانب النص، ومنهم بديع خيري وبيرم التونسي وأمين صدقي وغيرهم، بمن فيهم يونس القاضي نفسه الذي ذكر اسمه بجانب ما ألفه نصوص لحنها بالفعل سيد درويش، وليس من بينها لا نشيد بلادي ولا زوروني ولا أغنية الكترة ولا أهو دا اللي صار ولا أي من أدوار سيد درويش.
·       على أي حال لا تلقى دعوات نسبة النشيد القومي لمؤلف التفاهات والترهات قبولا بين الناس رغم الصراخ والعويل والإلحاح، ببساطة لأن لا أحد يصدق ما يدعون. وكلنا يعلم جيدا كيف تدار المواقع العربية وكيف يقتات معظمها على صياح الببغاوات، ونعلم أيضا كيف تحاك المؤامرات داخل بعض المؤسسات الصحفية والأكاديمية من خلال أبحاث وهمية لا تستند على أية أدلة أو وثائق وإنما فقط على تزوير التاريخ وتشويه صورة البلاد أمام شعبها وأجيالها الجديدة قبل أي طرف آخر

12. تقدير ألحان النجريدي
عودة إلى موضوعنا، إنصافا للجميع علينا أن ننظر بموضوعية إلى بقية أعمال تلك المرحلة ونقدر قيمتها الحقيقية ومدى إسهامها في تطور الفن والرقي به بدلا من الاستسهال بإسقاط كل أعمال الفترة جيدها وسيئها وكأنها لم تكن، بسبب هبوط مستوى بعضها الاجتماعي أو الأخلاقي. وهناك من هذه الأعمال عشرات من القصائد الراقية والألحان الرائعة التي توارت خلف الزمن وليس من مصلحة أحد استمرار إسدال الستار أو إهالة التراب عليها للأبد، ببساطة لأنها عنوان يشير إلى جوهر اجتماعي سليم وسلوك أخلاقي حميد وقف في مواجهة تيارات الانحطاط الأدبي واللغوي والاجتماعي والمحاولات المستميتة لتدمير معنويات الشعب المناضل دائما من أجل حريته وكرامته 
بهذه المناسبة نعد قراءنا ومستمعينا بنشر جميع ما توفر من ألحان الدكتور صبري مع كلماتها تباعا في الحلقات القدمة بإذن الله ودمتم بخير، عرض ونقد د.أسامة عفيفي، ألحان أحمد صبري النجريدي، أول ملحن لأم كلثوم
ألحان صبري النجريدي لأم كلثوم

عام
أم كلثوم / النجريدى
النوع
مقام
المؤلف
الأسلوب - سابق
الأسلوب - لاحق
1
1924
كم بعثنا مع النسيم سلاما
قصيدة
حجاز
خفض درجة وربع
إبراهيم ميرزا
أبو العلا محمد

2
1924
خايف يكون حبك ليّ
مونولوج
حجازكار كورد
رفع نصف درجة 
أحمد رامي
سيد درويش في الأدوار / مقدمة أنا عشقت
عبدالوهاب
في الطقاطيق
3
1925
الخلاعة و الدلاعة
طقطوقة
هزام
يونس القاضي
زكريا أحمد
زكريا أحمد
4
1925
شفت بعينى (التقل ليه)
طقطوقة
شوري
رفع درجة
أحمد رامي
سيد درويش في الأدوار / مقدمة ضيعت مستقبل حياتي
زكريا أحمد
5
1925
طلع الفجر ولاح
(يا زمان الوصل)
قصيدة
هزام
رفع درجة ونصف
أحمد رامي
سلامة حجازي 

6
1925
لي لذة في ذلتي
قصيدة
نهاوند

خفض نصف درجة
نصر الله الدجاجي
أبو العلا محمد

7
1926
ما لي فتنت بلحظك الفتاك
(سلوت كل مليحة إلاك)
قصيدة
بياتي
خفض درجة ونصف
علي الجارم
أبو العلا محمد / 
مقدمة خدعوها
لعبد الوهاب
8
1926
الفل و الياسمين
طقطوقة
نهاوند
خفض نصف درجة
أحمد رامي
 متفرد
عبدالوهاب
في الطقاطيق 
9
1926
يا كروان والنبي سلم
طقطوقة
حجازكار 
خفض نصف درجة
أحمد رامي
سيد درويش موشح زارني المحبوب / مقدمة أنا عشقت

10
1926
انا على كيفك
طقطوقة
بياتي نوا
خفض نصف درجة
أحمد رامي

زكريا أحمد
11
1926
يا ستي ليه المكايدة
طقطوقة
راست

رفع درجة
أحمد رامي

زكريا أحمد
12
1926
والله ما حدش جنى 
مونولوج
بياتي
خفض درجة ونصف
أحمد رامي
سيد درويش في الأدوار

13
1927
الحب كان من سنين
(اللي انكتب ع الجبين)
مونولوج
جهاركاه على الراست
خفض نصف درجة
أحمد رامي
متفرد
مقدمةشائعة
متفرد
ألحان صبري النجريدي لفتحية أحمد

عام
فتحية أحمد / النجريدى
النوع
مقام
المؤلف
الأسلوب - سابق
الأسلوب - لاحق
1
1924
فراق الروح
قصيدة
راست
خفض درجة وربع  

أبو العلا محمد

2
1924
أساة الهوى
قصيدة
نوا أثر
رفع نصف درجة

متفرد
متفرد
3
1924
بلغوها إذا أتيتم حماها
قصيدة
حجازكار مصور
شد عربان
بشارة الخوري
سلامة حجازي

4
1924
غلب الشوق مغرما فبكاك
قصيدة
بياتي
خفض درجة ونصف

أبو العلا محمد

5
1924
خطرت وورد الروض بين يديها
قصيدة
راست سوزناك على الجهاركاه

أبو العلا محمد

6
1925
عودوا لها وسلوها
قصيدة
حجازكار
خفض درجة ونصف

أبو العلا محمد

7
1928
أشكي منك
مونولوج
عجم
خفض درجة
أمين عزت الهجين
سيد درويش / ألحان المسرح / عشان ما نعلا
محمد القصبجي
إن كنت اسامح

ألحان صبري النجريدي للمطربة نادرة

عام
نادرة أمين / النجريدى
النوع
مقام
المؤلف
الأسلوب - سابق
الأسلوب - لاحق
1
1924
القلب كان ماله ومالك
طقطوقة
هزام
خفض درجة ونصف


زكريا أحمد
 

الأحد، 30 ديسمبر 2018

موسيقى عمر خيرت .. موسيقانا ما زالت بخير

عمر خيرت موسيقي مصري معاصر، مؤلف وموزع وعازف بيانو وقائد أوركسترا، له مؤلفات موسيقية عديدة اشتهر منها خاصة الموسيقى التصويرية للسينما والمسلسلات التليفزيونية، واهتم بالشكل والأداء الأوركسترالي العالمي لموسيقاه مما أعطاها بصمة مميزة عن الموسيقى العربية التقليدية. حرص على تقديم موسيقاه مباشرة للجمهور من خلال الحفلات العامة، وله فضل اجتذاب جمهور جديد كبير خاصة من الشباب للاستماع للموسيقى البحتة دون الغناء
البدايات
وعمر خيرت من الفنانين الذين استطاعوا الاعتماد على أنفسهم دون انتظار الترويج له من وسائل الإعلام، ففي بداية رحلته إلى الجمهور في الثمانينات ظهرت موسيقاه على شرائط كاسيت تباع في الأسواق كغيرها. كانت سوق الأغاني رائجة في الثمانينات لكن عرض الموسيقى وحدها كمادة تباع وتشترى بين جمهور لم يتعود على سماع الموسيقى البحتة كان أمرا مشكوكا في رواجه. 
فطن عمر خيرت إلى هذه المسألة بالطبع وكان يعلم أنها مغامرة لكنه سارع إلى مزجها بشيء آخر يجتذب الجمهور، فتضمنت أعماله توزيعات حديث لألحان محمد عبد الوهاب الشهيرة تحت اسم "وهابيات". 
كان توزيع ألحان مضمونة الانتشار أمرا رائجا في ذلك الوقت وفعل ذلك عمار الشريعي مع ألحان فريد الأطرش وغيره، كما قدم بعض العازفين نفس الأغاني بالآلة الموسيقية دون غناء مثل الكمان والبيانو وحتى الساكسفون. أدخل عمار عزفه البارع على العود والأورج بتوزيع جديد وإيقاعات شيقة لكن عمر خيرت أضاف شيئا جديدا، الأوركسترا الحديث، كما حرص على تقديم موسيقاه الخاصة جنبا إلى جنب مع توزيعات الألحان.
في البداية كان انطباع الجمهور جيدا في جملته، علم الناس أن هناك موسيقى جيدة يمكن سماعها بدل الأغاني، ولأن مادتها غير تجارية بطبيعتها جذبت شرائح المثقفين وطلاب الجامعات والطبقة المتوسطة عموما التي كانت قد يأست من ظهور فن جيد بعد موجة هائلة من الأغاني الهابطة اكتسحت الأسواق لعقد كامل، وتحديدا منذ عام 1975 عقب انتهاء حرب أكتوبر ومع تطبيق سياسة الانفتاح وهجر الدولة المتزايد للإنتاج الفني
المأخذ الوحيد على موسيقى عمر خيرت في ذلك الوقت كان التشابه الشديد بين مقطوعاته بحيث لا يمكن تمييزها تماما عن بعضها. لكن دخول عمر خيرت إلى عالم الموسيقى التصويرية جعل موسيقاه أكثر تنوعا وثراء، خاصة أنها قد أطلقت عليها أسماء الأعمال الدرامية التي عبرت عنها فساهم ذلك كثيرا في ربط الموسيقى بالدراما في أذهان الناس، مثل المسلسلات التي يتابعها الجمهور باستمرار، وأضاف هذا إلى شهرته كثيرا.
العروض الموسيقية 
اتجه عمر خيرت بعد ذلك إلى تقديم أعماله في عروض موسيقية خاصة على المسرح، معتمدا على تكوين فرقة موسيقية عالية المستوى، وعزفه بنفسه على البيانو، ولم يقدم في هذه العروض ألحان غيره بل أقصرها على مؤلفاته، وخيرا فعل.
مع الوقت اكتشف الجمهور الذي ارتاد حفلات عمر خيرت أن هذه الحفلات تقدم شيئا جذابا آخر غير الموسيقى. هناك جو محترم في القاعة وأسلوب راقي في التعامل مع الموسيقى ومع الجمهور، لا تهريج، لا رقص، لا تصفيق وسط العرض، وحتى أسلوب الدعاية لتك الحفلات اتخذ أسلوبا راقيا، فكان عمر خيرت يختار الأماكن التي تفرض احترامها على الجمهور وبالتالي يتوقع أن يرتادها جمهور يحترم المكان والفن المقدم. 

هذا الشكل الاجتماعي الحضاري، والذي يرجع في جانب كبير منه إلى شخصية عمر خيرت كإنسان يتمتع بقدر عال من الأخلاق والذوق الرفيع أكسب حفلاته شكلا راقيا أصبح هدفا في حد ذاته من جانب الجمهور، خاصة الشباب، غير الاستماع للموسيقى، وكأن واقع الحال يقول "ليس بالفن وحده يحيا الفنان"
الموسيقى التصويرية
ولعمر خيرت فضل كبير في إعادة الموسيقى التصويرية إلى سياقها الطبيعي الذي افتقدته كثيرا بعد توقف نشاط مؤلفيها الكبار في عصرها الذهبي مثل فؤاد الظاهري، عزت الجاهلي، إبراهيم حجاج، وأندريا رايدر، والتي استندت في جانب كبير منها الموسيقى المحلية بعد إعادة صياغتها فى صيغ موزعة أوركستراليا تنفذها فرق كبيرة ضمت عناصر محترفة من العازفين الأكفاء.

استخدم عمر خيرت الميلودية والإيقاعات الشرقية في كثير من أعماله للسينما، وأحيانا إلى حد ابتعادها عن كونها "موسيقى تصويرية". ولكنه لم يستخدم ألحانا شائعة بعينها، على سبيل المثال ظهرت في الأفلام الأقدم موسيقى ارتكزت على ألحان مثل "زوروني"، و"قوم يا مصري" و"بلادي" لسيد درويش، و"حسن يا خولي" لمحمود الشريف وغير ذلك كثير. بل ألف جديدا يكفي للإيحاء بشرقية النغمات وابتعد عن "إعادة صياغة" الموسيقى الشائعة. لكن أعماله الأحدث تميزت بتصويرية أكثر من الميلودية، وكان هذا تصويبا، إن صح التعبير، للاتجاهين، اتجاه عمر خيرت واتجاه الموسيقى التصويرية بشكل عام.

حفز ظهور أعمال عمر خيرت السينمائية جيلا جديدا من مؤلفي الموسيقى التصويرية تميز بالدراسة والثقافة ووضوح الفكر الموسيقي مثل خالد حماد ومودي الإمام وياسر عبد الرحمن وغيرهم، وخلص هذا الاتجاه موسيقى السينما من الاعتماد على الملحنين والعازفين في صياغة الموسيقى التصويرية خلال موجة السينما التجارية وأفلام المقاولات.

من أشهر أعمال عمر خيرت للسينما موسيقى أفلام ليلة القبض على فاطمة، إعدام ميت، قضية عم احمد، عفوا أيها القانون، موعد مع القدر، جحيم تحت الماء، الإرهابي، السفارة في العمارة، ولاد العم، عسل اسود، زهايمر
ومن المسلسلات اللقاء الثاني، ضمير أبلا حكمت، القضاء في الإسلام، العميل 1001، الجماعة، فرقة ناجي عطاالله، الداعية
ومن الموسيقى البحتة (التعبيرية) افتتاحية مصرية، وبانوراما أكتوبر
الألحان
من ألحان عمر خيرت التي لاقت رواجا هائلا أغنية "فيها حاجة حلوة"، التي تتحدث عن جماليات الحياة في مصر، غناء ريهام عبد الحكيم وكلمات أيمن بهجت. لكن تجاربه في التلحين تظل محدودة قياسا إلى أعماله في الموسيقى التصويرية والتعبيرية، وهو حتى الآن يشار إليه كموسيقي أكثر مما يعرف كملحن.
في مواقع كثيرة أشرنا إلى أن "المؤلف الموسيقي" قد لا يكون بالضرورة ملحنا جيدا، وأن الملحن الجيد قد لا يستطيع تأليف موسيقى تصويرية أو تعبيرية، وأن تأليف الموسيقى والتلحين ملكتين مختلفتين وقليل من الموسيقيين من يملكهما معا، فأين موقع عمر خيرت من هؤلاء وهؤلاء؟ 

في رأيي الشخصي أن عمر خيرت فنان من تلك القلة التي تمتلك الموهبتين معا، بدليلين أحدهما نجاح اللحن الذي أشرنا إليه، والدليل الآخر أنه حتى موسيقاه "التصويرية" لا تخلو من الميلودية اللحنية، بل أحيانا تكون هذه أجمل مقاطعها وأقربها للجمهور.
وليته يكثر من الألحان حتى تكتمل اللوحة الفنية الرائعة التي يرسمها بخياله وإحساسه ولمساته، وحتى يقبل على أعماله الغالبية من الجمهور التي لا تعرف ولا تتقبل إلا الفن الغنائي

الحقيقة أن لدى عمر خيرت إمكانيات واسعة في هذا المجال لكنه ربما لا يريد أن يقيد خياله بالكلمات، أي بفكر إنسان آخر، ليبقى حرا تماما، فلا قيود من المطربين أو النقاد أو الجمهور. وحتى تلك الأغنيات القليلة التي قام بتلحينها نجدها تتناول موضوعات عامة حول الوطن والإنسان ولا تدخل إلى تلك المناطق الخاصة، والشائكة أحيانا، التي تفرضها الأغنية العاطفية .. 
وأراه محقا إلى حد كبير في هذا الموقف خاصة أن الأغنية هي الزاوية التي ينفذ منها الهابطون وينتشرون إلى أصحاب الذوق الهابط، لكن الأغنية ليست عاطفية فقط على أي حال ولا يجب أن تكون كذلك
أسرار النجاح
لم يأت نجاح عمر خيرت من فراغ، فهو محب للموسيقى درس قواعدها وتعمق في أسرارها، وساعده نشأته في أسرة فنية عريقة، ويكفي في ذلك انتسابه لعمه الفنان المهندس أبو بكر خيرت مؤسس المعهد العالي للموسيقى بمصر، الكونسرفاتوار، وصاحب سلسلة مؤلفات موسيقية رائعة قدم فيها موسيقانا المحلية بشكل عالمي رفيع المستوى، وكمهندس معماري قام بتصميم قاعة سيد درويش الشهيرة بالقاهرة.

وفوق كل هذا لا شك أن عمر خيرت قد كافح طويلا وصبر طويلا وبذل كثيرا من الجهد والمال ليستطيع الصمود بفنه في عالم مليء بالفنون الهابطة والأشكال الساقطة، وسيظل ما قدمه من فن نموذجا راقيا للفن المحترم، ولمن فقد الثقة والأمل في فنوننا الموسيقية ونحن على مشارف العام 2019 أقول "استمعوا إلى موسيقى عمر خيرت، فهي خير دليل على أن موسيقانا ما زالت بخير"، نقد وتحرير د. أسامة عفيفي، موسيقى عمر خيرت

الأربعاء، 19 ديسمبر 2018

فن التقاسيم .. هل ينقرض في القرن 21 ؟

فن التقاسيم أحد الأشكال الموسيقية طالما حاز إعجاب الجماهير، وارتبط بأسماء مشاهير الملحنين والعازفين، لكن استخدامه أخذ في الانحسار تدريجيا. هل كان ذلك بسبب رحيل الفنانين الكبار أم بسبب عزوف الجمهور عن هذا الشكل التقليدي من الموسيقى؟ قبل الإجابة على هذا السؤال نلقي بعض الضوء على هذا الفن الجميل الذي يكاد أن ينقرض بعد حياة ويخبو بعد توهج

التقاسيم
الأصل في التقسيم هو ارتجال فوري على آلة موسيقية دون سبق تدوين أو أداء. ويظهر التقسيم قدرة العازف على ابتكار الجمل الموسيقية والأنغام وكفاءة استخدامه للمقامات والإيقاعات وإمكانيات الآلة. وهو يقابل الموال في الفنون الغنائية حيث أنهما يشتركان في كونهما فنا مرتجلا في الأساس. والفرق بين موسيقى التقاسيم وغيرها كالفرق في الشعر بين شاعر يلقي قصيدة مكتوبة وآخر يرتجل أبياتا جديدة تماما أمام جمهوره في التو واللحظة  

أنواع التقاسيم
والتقسيم نوعان الأول حر مرسل دون وحدة زمنية، والآخر موقع على إيقاع يختاره العازف
وقد يكون التقسيم على آلة منفردة أو قد يشترك فيه عازفان أو أكثر فيما يعرف بالحوار بين الآلات، وقد يؤدى هذا الشكل في قالب "التحميلة" الذي يقدم عدة تقاسيم لآلات مختلفة، غالبا على إيقاع، يفصل بينها، أو يربطها، أداء الفرقة بجملة مشتركة 

التقاسيم المسجلة
يقصد بالتقسيم المسجل التقسيم الذي يعاد عزفه كما قدم لأول مرة. هذا النوع من التقاسيم لم يظهر إلا بعد ظهور الاسطوانات التي أمكن بها الاحتفاظ بالتقسيم المرتجل ومن ثم إعادة تقديمه

آلات التقاسيم
آلات التقاسيم المعتادة في الموسيقى الشرقية هي العود والقانون والناي والكمان، لكن من الممكن أداء التقاسيم على أي آلة موسيقية



أساليب التقاسيم
بصفة عامة ظهرت مدرستان في أداء التقسيم، الأولى مقامية تعتمد على الاستخدام الأكثر للمقامات والتحول بينها، وهي المدرسة الأكثر طربا، والثانية تعتمد على إبهار الأداء حتى لو اقتصر على مقام واحد. 
من أساتذة المدرسة الأولى في العود محمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب، ومن أساتذة المدرسة الثانية فريد الأطرش بما عرف عنه من تكنيك الريشة أو اليد اليمنى المستوحى من عزف الجيتار الأسباني، وعرف عن فريد أيضا ربطه تقسيمات معدة سلفا بأغنيات معينة له، وتقديمه لنفس التقسيم في كل مرة، وقد كسر بذلك قاعدة الارتجال

الفرق بين التقسيم والسولو
يشترك التقسيم مع السولو في كونهما عزفا منفردا على إحدى الآلات، لكن لا يجب الخلط بينهما حيث يكون السولو دائما جزءا من لحن أو مقطوعة موسيقية، بينما يمكن أداء التقسيم كشكل فني مستقل
من ناحية الصياغة فإن السولو يضع لحنه الملحن وبذلك يكون مكتوبا سلفا، ويجب على العازف الالتزام به كما جاء في النوتة المكتوبة، بينما يكون التقسيم من خيال العازف وهو حر التصرف فيه. وفي بعض الأحيان يترك الملحن للعازف حرية أداء السولو، أي لا يكتبه مسبقا، وهنا يتحول إلى تقسيم ويصبح الأمر في يد العازف إما أن يبتكر جديدا في كل مرة أو يكرر ما عزفه سابقا

التقسيم في الموسيقى الغربية
ولفن التقاسيم مقابل في الموسيقى الغربية يسمى "كادنزا" أي "ارتجالات"، وقد ظلت تؤدى بارتجال حقيقي حتى في مقاطع وسط أعمال أكبر مثل الكونشرتو إلى أن أدخل عليها الكتابة المسبقة كما فعل موتسارت وبيتهوفن. وفي الموسيقى الحديثة ينتشر فن الارتجال في موسيقى الجاز أكثر من غيرها من الأنواع  

أشهر العازفين
اشتهر عازفون مهرة عرفوا ببراعتهم في تقديم التقاسيم، منهم على الكمان سامي الشوا، أنور منسي، وأحمد الحفناوي. وعلى القانون محمد العقاد، عبده صالح، إبراهيم العريان، وعبد الفتاح منسي. وعلى الناي سيد سالم، محمود عفت، ورضا بدير. وعلى العود محمد القصبجي، رياض السنباطي، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، جورج ميشيل، محمد عفيفي، منير بشير، عبد الفتاح صبري، عبادي الجوهر، ممدوح الجبالي، وغيرهم كثيرون
 
وللتقاسيم جمهور كبير في العالم العربي حيث يميل المستمع إلى الطرب ويظهر الجمهور تفاعله سريعا مع أداء العازف بإبداء الإعجاب الفوري إذا أحسن العزف والتصرف، وكثيرا ما تقدم التقاسيم كتمهيد قبل الغناء لتركيز الإحساس بالمقام
وغني عن القول أن فن التقاسيم يحتاج إلى عازف ماهر، لكن خيال العازف وقدرته على استحضار المقامات والتحول من جملة إلى أخرى ومن مقام إلى آخر هي أكثر ما يجذب المستمع

هل يمكن إجادة التقاسيم بالتعلم؟
الجواب هنا نعم ولا .. فالمتعلم يمكنه إجادة العزف والتمكن من الآلة والاطلاع على الأساليب المختلفة في الأداء، لكن قدرته على الارتجال تظل قيد موهبته في الارتجال أي التأليف الفوري للموسيقى وهذه موهبة خاصة لا يمكن اكتسابها بالتدريب فقط. 

وهذا يفسر لماذا تفوق الملحنون على العازفين في التقسيم على العود، والفرق يكمن في تمتعهم بملكة التأليف، وقد يلاحظ المستمع جودة أعلى في أداء نفس العازف لسولو في ألحان غيره مقارنة بأدائه لتقاسيم ارتجلها بنفسه، والسر يعود لنفس السبب

إلى أين يتجه فن التقاسيم في القرن 21 ؟
رغم أن فن التقسيم يبدو في طريق الانقراض على مستوى العروض الفنية فإنه ليس كذلك على الإطلاق لدى الجمهور، القديم والجديد على السواء، فالجمهور ما زال يعشق هذا الفن ويستمتع به. وربما فقط قل تقديم هذا النوع من الفن لكونه مرتجلا أساسا بينما يعتمد 99% من الفن الموسيقي المقدم على مواد جاهزة لا تعطي فرصة لتقديم التقاسيم.

وربما يجيء هنا دور وسائل الإعلام بتقديم العزف المنفرد كمادة فنية مستقلة تظهر مواهب العازفين وتنشط خيالهم وتكون حافزا للإجادة لدى الأجيال الجديدة، وتساهم أيضا في تشكيل ثقافة الجمهور الموسيقية. ولا يمكن فصل هذا عن إحجام الإعلام عموما عن تقديم الموسيقى البحتة في أي من أشكالها وتفضيل المواد المغناة دائما. 

وقد يقال أن وسائل الإعلام تنقل ما هو موجود بالساحة، لكنها بالتأكيد يمكنها تقديم الموسيقى دون الاعتماد على المواد المسجلة أو الحفلات. والواقع أن الفرق بين إعلامنا والإعلام الغربي يكمن أساسا في إدراك أهمية تذوق الموسيقى البحتة وقدراتها غير المحدودة في إطلاق الخيال ومخاطبة المشاعر، عرض وتحرير د. أسامة عفيفي، فن التقاسيم 
روابط 
عزف منفرد .. محمد القصبجي
تقاسيم عود بياتي - رياض السنباطي 

فيسبوك يمنح الشركات الكبرى حق قراءة الرسائل الخاصة

منح موقع التواصل الاجتماعي العالمي "فيسبوك" حقوقا جديدة للشركات العملاقة، باتفاق رسمي، تتيح لها خرق خصوصية المستخدمين. وسمح "فيسبوك" لشركة "ميكروسوفت" و "أمازون" بالاطلاع على قوائم الأصدقاء لجميع مستخدمي فيسبوك دون إذن أصحابها كما سمح لشركات أخرى مثل "نت فليكس" و"سبوتيفاي" بقراءة الرسائل الخاصة بين المستخدمين

نشرت هذه الأخبار صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، الثلاثاء 18 ديسمبر 2018، بناء على وثيقة الاتفاق التي حصلت على نسخة منها، وتقول الصحيفة إن الصفقة تهدف إلى زيادة هائلة في أرباح الجميع ستنتج عن زيادة قدرات هذه الشركات على متابعة نشاط مستخدمي فيسبوك

الاثنين، 17 ديسمبر 2018

إلياس رحباني - موجة حالمة في عالم متوتر

وسط عالم يملؤه التوتر والقلق استطاع الفنان إلياس رحباني أن يثير موجة راقية من الموسيقى الحالمة التي تهدئ النفوس وتوحي بالاستقرار والأمل
وبين الموسيقى العربية التقليدية والموسيقى العالمية الحديثة وضع إلياس نموذجا موسيقيا فريدا أحبه الجمهور ووجد فيه ذوقا رفيعا وأداء متقنا تحتاجه الموسيقى العربية بشدة، وهو الذي ظهر في أهم أعماله للسينما التي نعرض منها اليوم مقطوعتين من أشهر مقطوعاته "دمي ودموعي وابتسامتي" و "حبيبتي"، وكل منهما تحمل اسم الفيلم السينمائي الذي ظهرت فيه

في ذلك الوقت، السبعينات،  كانت هناك موجة من الأفلام العالمية الشهيرة التي تميزت بموسيقاها منها "قصة حب Love story"، "الأب الروحي God Father" و"الطيب والشرس والقبيح Good, bad & ugly" وأفلام جيمس بوند وغيرها. وحقيقة استطاعت موسيقى تلك الأفلام التميز عن مادتها السينمائية، بل ربما التفوق عليها بحيث إذا نسي الناس السينما بقيت الموسيقى حاضرة في ذاكرة الجماهير
ويمكن القول إن إلياس رحباني قد تأثر بهذه الموجة واستوحى منها الشكل الموسيقي الذي قدمه في أفلامه بذوق شرقي حساس وأداء غربي السمات والأدوات. وكما حدث مع الأفلام الغربية ارتفعت موسيقاه بأفلامها وأضافت لها قيمة فنية عالية لم يكن يتوقعها المؤلف أو المخرج. 
ولعل في هذا رسالة للمخرجين الجدد مفادها أن الموسيقى وحدها يمكنها أن تميز فيلما وتصبح أيقونته التي يتذكرها الناس لأجيال
إلياس رحباني
  • موسيقي لبناني معاصر، اشتهر بالموسيقى التصويرية والمقطوعات الرومانسية، مواليد 1938
  • عمل مستشارا موسيقيا لإذاعة لبنان بين عامي 1962 و 1972
  • وضع موسيقى 25 فيلما وبعض المسلسلات أشهرها فيلم "دمي ودموعي وابتسامتي" قصة إحسان عبد القدوس وإخراج حسين كمال عام 1973، وفيلم "حبيبتي" للمخرج بركات عام 1974
  • تميز أسلوبه باستخدام الهارموني والأوركسترا الحديث والجمع بين الأسلوب الغربي والذوق العربي
  • له مئات من الأعمال الموسيقية بين المقطوعات والأغاني
  • له ألحان لكبار المطربين منهم فيروز، صباح، وديع الصافي، نجاح سلام، ملحم بركات، ماجدة الرومي
  • نشط كعضو في لجان تحكيم برامج المواهب
  • شارك في عدة مهرجانات محلية ودولية
  • نال عدة جوائز دولية ودكتوراة فخرية من جامعة "بارنجتون" الأمريكية

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

مؤلفات عبد الوهاب الموسيقية - القافلة

موسيقى القافلة 
محمد عبد الوهاب 1949 
مقام ري مينير (نهاوند مصور) 
تعد موسيقى القافلة من أعظم مؤلفات عبد الوهاب الموسيقية إن لم تكن أعظمها على الإطلاق 
أما لماذا ترتفع مرتبة هذه الموسيقى إلى تلك المنزلة فهذا يعود إلى عدة أسباب 
1. إجادة التعبير 
2. وحدة ووضوح الموضوع الموسيقي 
3. تكريس كامل لأدوات الابتكار، الخيال والإبداع والبناء الفني 
4. استخدام التوزيع بشقيه، الهارموني والكاونتر بوينت 
5. الاستخدام البارع للأوركسترا  

ماذا كان لدى محمد عبد الوهاب ليتمكن من صنع هذا كله؟ لم يكن لديه سوى كلمة واحدة هي عنوان المقطوعة! الكلمة هي التي أعطت الفكرة والشكل والمدلول وكل شيء 
هذا بالضبط ما قصده عبد الوهاب عندما سئل عما ينقص الموسيقى العربية قائلا "التعبير بالموسيقى دون كلمات". هذه الإجابة تلخص ماضي الموسيقى العربية الممتلئ بالغناء والطرب، غالبا على حساب التعبير والتحديث، وطريق مستقبلها الذي لن يشهد أي تطور كبير دون تطوير الموسيقى كفن مستقل بمعزل عن الغناء 

عبد الوهاب في "القافلة" يصنع ما قاله بنفسه بالحرف قبل أن يرسم به الطريق أمام الأجيال اللاحقة لتنفض عنها الرتابة والملل ولتنشط إلى التعبير الحقيقي، بأدوات متطورة، عن هويتها وشخصيتها ومشاعرها، ولتتعلم كيف تكف عن اجترار القديم وكيف تبدع الجديد وتبتكر الحديث، ولا تقع فريسة للسطحية والغوغائية، أو استهلاك إبداعات الآخرين 
عمل عبد الوهاب بما نادى به، والأمثلة كثيرة على سيره في هذا الطريق، لكن هل وصلت الرسالة إلى أحد؟ وهل وجدت آذانا صاغية؟ 

تشير المصادر المتاحة إلى تواريخ مختلفة لإنتاج موسيقى "القافلة" 1949، 1955، 1962. وهذا الاختلاف قد يسبب بعض الحيرة نظرا لتطور الموسيقى والأداء الأوركسترالي كثيرا في موسيقى "القافلة" نسبة إلى موسيقات عبد الوهاب السابقة. ولا يهم هنا صياغة الموسيقى نفسها بقدر ما يهم طريقة تنفيذها، وتحديدا باستخدام الأوركسترا الشامل والتوزيع بدلا من "التخت" التقليدي ومدى توفر هذه الإمكانيات وقت إنتاج "القافلة". قد يوصلنا التعمق في البحث "التاريخي" إلى تاريخ الاسطوانة الحقيقي، لكنا سنحاول استخدام طريقة "موسيقية" للاستدلال على إشارات هذه التواريخ 
التاريخ الأقدم، 1949، ليس مستبعدا حيث سبق لعبد الوهاب استخدام الأوركسترا والتوزيع في أوبريت "مجنون ليلى"، 1940، في مقاطع أقرب إلى الموسيقى التصويرية منها إلى الغناء والطرب. وأشرنا في الحديث عن "مجنون ليلى" إلى أن العمل الموسيقي كان لفرقة موسيقى الإذاعة بقيادة عزيز صادق، وهي فرقة ذات مستوى عال في التكوين والأداء، مما يدل على أن هذا التكوين فائق الجودة كان موجودا قبل "القافلة" بعشر سنوات على الأقل ويظهر التكوين الأوركسترالي في أعمال أخرى له في الأربعينات مثل لست أدري، القمح، وعاشق الروح 
التاريخ الأوسط 1955 يقترب من وقت أعمال غنائية تضمنت موسيقى متطورة في أعمال غنائية مثل "لأ مش أنا اللي ابكي" لكنها بعيدة عن الأوركسترا الكلاسيكي المستخدم في "القافلة" 
التاريخ الأحدث، 1962، يقرب "القافلة" من سلسلة "الخيام" التي بدأت في ذلك العام بموسيقى حديثة تنتمي إلى ما يمكن تسميته "الأوركسترالية الإيقاعية" القريبة من الأوركسترا المستخدم في "القافلة" 
أيا كان التاريخ فنحن أمام عمل عظيم بكل المقاييس، إبداعا وأسلوبا وأداء، ونموذج لكيفية التعبير الفائق بالموسيقى عن مشهد ما دون أن ننطق بكلمة غير العنوان. 

التكوين الفني 
المقامات 
المقام الأساسي ري مينير (نهاوند مصور) 
شاهناز 
كورد 
نوا أثر 
الإيقاعات 
رباعي متوسط (مصمودي صغير / مقسوم) 
ثنائي (فوكس) 
الحركات 
1. الحركة الأولى 
سولو كمان حر مقام نهاوند 
سولو أبوا حر مقام نهاوند 
سولو كمان حر مقام نهاوند يتحول إلى شاهناز في ختامه مع تأكيد المقام بالأوركسترا 

2. الحركة الثانية 
مقام شاهناز على إيقاع رباعي متوسط 
إيقاع نغمي 
سولو لثنائي الأبوا / الفلوت موقع ينتهي في مقام الكورد 
إعادة لنفس السولو مع دخول الوتريات بلحن معاكس (كاونتر بوينت) 
إعادة بالأوركسترا لنفس الميلودي مع دخول آلات البوق الفرنسي في الخلفية باللحن المعاكس يتوقف الإيقاع بنهايتها 
فقرة ختامية متسارعة تعيد المقام الأساسي (ري مينر)، يتبادل أداءها آلات النفخ الخشبية والوتريات والآلات النحاسية، تتباطأ في النهاية لتستقر على خامسة المقام الدنيا 

3. الحركة الثالثة 
مقام ري مينير على إيقاع رباعي متوسط 
سولو فلوت حر في المقام الأساسي بمصاحبة آلات الشللو بلحن معاكس ينتهي بجملة قصيرة تؤديها الأبوا والكلارينيت 
إيقاع نغمي رباعي متوسط بتفاعيل شرقية (مقسوم) 
جملة مميزة تؤديها الوتريات بالتبادل مع آلات النفخ الخشبية والنحاسية 
حوار بين آلة القانون والأوركسترا على نفس الإيقاع مع مؤثر صوتي بصوت الفلوت المرتجف بين ضربات الإيقاع التي تميزها الدفوف 
حوار متسارع دون إيقاع بين الوتريات والآلات النحاسية 
حوار بين الوتريات والآلات النحاسية على إيقاع رباعي بضربات مختلفة تحول إلى مقام نوا أثر 
رد لحني على الفقرة السابقة دون إيقاع يستعيد أنغام سولو ثنائي الأبوا / الفلوت ولكن في مقام كورد الحسيني، تؤديه الوتريات تصاحبها الأبوا بلحن عكسي ينتهي بتصاعد سريع إلى قمة السلم بمصاحبة رعشات متصاعدة من آلة التيمباني الإيقاعية 

4. الحركة الرابعة 
مقام نوا أثر على إيقاع ثنائي 
إيقاع نغمي ثنائي سريع (فوكس) 
حوار موقع بين ثنائي الأوبوا / الفلوت والوتريات مقام نوا أثر يتخلله دخول الأوركسترا بجملة اعتراضية تصاعدية إلى جواب الدرجة الثالثة يتوقف الإيقاع بنهايتها 
دوران حول الدرجة الخامسة تؤديه الوتريات دون إيقاع بينما تتدخل آلات النفخ الخشبية والنحاسية لتصنع ختاما أوبراليا متباطئ الخطوات ينتهي في مقام ري مينير 
إعادة للفقرتين الأخيرتين من الحركة الثالثة 

الختام 
مقام نوا أثر 
حوار بين الآلات النحاسية وباقي الأوركسترا دون إيقاع 
ضربات ختامية حادة لكامل الأوركسترا تنهي الموسيقى بختام سيمفوني 

القالب الموسيقي 
لم يتقيد المؤلف بقالب بعينه، شرقي أو غربي، ورغم أن تمحور الموسيقى حول آلة القانون يجعل الشكل يميل بعض الشيء إلى الكونشرتو فهناك أكثر من آلة تعزف أداء منفردا مثل الكمان والأوبوا مما يجعل الموسيقى تخرج عن هذا القالب. أيضا لا يكفي الختام السيمفوني القوي لجعل الموسيقى في قالب السيمفونية لاختلاف التكوين العام لكنها أقرب إلى قالب القصيد السيمفوني الذي يتمتع بحرية أكبر في التأليف والبناء الفني 

التعبير 
تعبر الموسيقى في مجملها عن سير القافلة العربية في عدة صور .. فالقافلة تعتد وتستعد، تتحرك وتستريح، تسرع وتبطئ .. وهي حركة جماعية، لها قائد ودليل، وتشهد مطلع النهار وهبوط الليل .. تثقل بالأحمال وتخف بالآمال .. وتتوزع فيها المهام إلى أن تصل مقصدها بسلام 
والقافلة ظاهرة كونية، لكنها في المنطقة العربية لها خصوصية .. خطوات الجمال، والصحراء الممتدة بلا معالم سوى الرمال، ومسافرون على وقع مزيج من سير القافلة والأنغام العربية 

أدوات التعبير 
التمهيد بتوظيف سولو الكمان الحر في البداية 
الإيقاع باستخدام الإيقاع الشرقي الأصيل (الرباعي المقسوم) في الوسط، والثنائي السريع قرب النهاية 
التسارع والتباطؤ للآلات المنفردة والأوركسترا Acceleration & Deceleration  
•       التصاعد والتخافت Crescendo / Diminuendo 
المقامات باستخدام المقامات الشرقية التي يتميز بها الشرق مثل الشاهناز والنوا أثر والكورد، بجانب المقام الرئيسي، نهاوند، وهي وإن كانت تتميز بخصوصية شرقية لا تحتوي على ربع التون مما يؤهلها للدخول في منظومة أوركسترالية بتوافق تام. وحتى مقام النهاوند تم الاعتماد أكثر على صيغته الشرقية أي جنس الحجاز الموجود فيه وهو يشترك مع الشاهناز والنوا أثر في بعد طويل مقداره ½1 تون لا يستخدم إلا نادرا في الموسيقى الغربية 
الحوار الموسيقي بين الجمل وبين الآلات والأوركسترا 
اختيار الآلات 
  o ينم اختيار الآلات عن ذكاء موسيقي بالغ، فرغم انتماء الآلات إلى الأوركسترا السيمفوني هناك آلة واحدة لا تنتمي إلى هذا الجمع هي آلة القانون، وهي آلة شرقية استطاعت أن تجد لها مكانا مركزيا في الأوركسترا السيمفوني بفضل رؤية المؤلف وحرصه على التعبير عن الجو الشرقي بآلة شرقية وثقته التامة في إمكانية ذلك. 
  o اختيار آلتي الأوبوا والفلوت منفردتين أو كثنائي يعكس آلتي المزمار والناي الشرقيتين ولكن بأداء سيمفوني. ونتذكر هنا أداء آلة الأبوا خاصة في أوبريت "مجنون ليلى" الذي يرتكز على خلفية درامية ذات ملامح عربية صرفة 
التوزيع الموسيقي الآلي والهارموني والكاونتربوينت مع توظيف دقيق لإمكانيات الأوركسترا الكلاسيكي العالمي المستخدم في أداء السيمفونيات 

إسقاطات 
تستحق موسيقى القافلة مقارنتها ببعض الأعمال العالمية لتقارب الأسلوب والأداء رغم اختلاف الألحان 
1. موسيقى مارش سلاف، الموسيقار الروسي تشايكوفسكي 1876 Tchaikovsky 
استخدام مقام النوا أثر الشرقي كمقام رئيسي، وهو فرع من النهاوند (المينير) ونادر الاستخدام في الموسيقى الكلاسيكية العالمية 
استخدام ثنائي الأوبوا / الفلوت 
توظيف الإيقاع كعنصر رئيسي في العمل 

2. موسيقى شهرزاد، الموسيقار الروسي ريمسكى كورساكوف 1888 Rimsky Korsakov 
استخدام سولو الكمان في الاستهلال بأسلوب مشابه، وهنا يجب التنويه إلى براعة عازف الكمان وإجادته للتعبير عن الموسيقى الشرقية بأسلوب كلاسيكي عالمي، وهو ما عرف عن عازف الكمان الأول في مصر، أنور منسي، والذي قام بعزف سولو الكمان في أعمال كثيرة لعبد الوهاب أشهرها مقدمة "الفن"، وهو شقيق عازف القانون الأشهر عبد الفتاح منسي الذي ربما يكون عازف سولو القانون في هذا العمل "القافلة" 
شرقية الملامح الموسيقية وأهمها تكريس الميلودية الغنائية في بعض المقاطع مما يكسبها القابلية للحفظ والتذكر. ورغم عدم استخدام مقامات شديدة الشرقية مثل النوا أثر إلا أن مقام النهاوند المستخدم يمكنه إضفاء الجو الشرقي على الموسيقى بسهولة 
تشترك المقطوعتان في اتباعهما أصول العمل السيمفوني دون التقيد بقالب السيمفونية، وبينما تميل "القافلة" إلى القصيد السيمفوني تميل "شهرزاد" إلى المتتابعة الموسيقية 
3. موسيقى فيلمي الرسالة 1976 وعمر المختار 1981، الموسيقار الفرنسي موريس جار Maurice Jarre 
استخدام مقامي النوا أثر والحجاز الشرقيين إلى جانب النهاوند والكورد 
استخدام ثنائي الأوبوا / الفلوت 
توظيف الإيقاع كعنصر رئيسي في العمل 
ونظرا لحداثة تاريخ هذه الموسيقى التصويرية، يبدو أن المؤلف قد تأثر على نحو ما بموسيقى الشرق، ومنها موسيقى عبد الوهاب، أو قصد ذلك في طريق دراسته للموسيقى الشرقية ليتمكن من التعبير عن الجو الشرقي وحركة القوافل في الصحراء العربية 
وبينما اختار محمد عبد الوهاب إيقاع المصمودي الرباعي "المقسوم" للتعبير عن الجو العربي، اختار موريس جار في عمر المختار إيقاعا عربيا أيضا من التراث الأندلسي يسمى "نوخت" وميزانه 4/7 للتعبير عن خصوصية نفس الجو. 

بهذا المؤلف ارتقى عبد الوهاب بالموسيقى العربية إلى أعلى درجة في تاريخها، لكن بالطبع ساهمت عناصر أخرى في إخراج العمل الفني بهذا الشكل المتقن مثل تكوين الأوركسترا والتوزيع الموسيقي ومهارة العازفين وحرفية التسجيل والهندسة الصوتية، وهي عناصر تعكس ثقافة فنية عالية لجميع مستويات الإنتاج، نقد وتحليل د أسامة عفيفي موسيقى القافلة، مؤلفات محمد عبد الوهاب الموسيقية 

الجمعة، 12 أكتوبر 2018

وداعا أسامة رؤوف .. رمز الزمن الجميل

أسامة رؤوف 1938 - 2018  
رحل عن عالمنا الفنان السكندري المطرب أسامة رؤوف بعد رحلة طويلة في عالم الفن والطرب بدأت منذ خمسينات القرن العشرين. تمتع أسامة بصوت جميل وأداء معبر بالإضافة إلى شخصية رقيقة جذبت إليه كل من تعامل معه. بالإضافة للغناء كان عازفا للعود مما مكنه من عزف أغانيه بنفسه وسهل ذلك من مهمة الملحنين بالتقاطه الألحان بسرعة خاطفة

نجومية لم تكتمل 
قدم الفنان الراحل عشرات الأغاني للإذاعة والتليفزيون اشتهرت منها خاصة "أرض الفيروز" من ألحان محمد الموجي. وفي السينما اشترك بأغنية "شيء غريب شيء عجيب" في فيلم "منتهى الفرح" من ألحان محمد الموجي عام 1963 مع باقة من نجوم الغناء على رأسهم محمد عبد الوهاب الذي غنى "هان الود" في نفس الفيلم، بالإضافة إلى شادية وصباح وفايزة أحمد ومها صبري وفريد الأطرش

لا يعرف أحد على وجه التحديد لماذا تقوقع أسامة رؤوف في الإسكندرية بعدما أتيحت له عدة فرص لنجومية كبيرة في القاهرة لكنه، كما ألمح لي، لم يشا ترك عمله بالإسكندرية وكانت هناك عقبات اجتماعية حالت دون نقل نشاطه للقاهرة بصفة دائمة. 
وهذه الأسباب ليست قاصرة عليه في الواقع وإنما اشترك فيها كل فناني الإسكندرية تقريبا، وقليلون فقط غامروا بترك مدينتهم وأعمالهم وضحوا باستقرارهم الاجتماعي في طريق الفن، فنحن نعرف هذا عن كبار الموسيقيين مثل جلال حرب ومحمد عفيفي وفتحي جنيد وغيرهم كثيرون لم تسمح ظروفهم بالمغامرة، ولم يفلت من هذه القيود غير سيد درويش وسلامة حجازي وكامل الخلعي ومحمود الشريف ورغم ثراء المدينة الفني ظلت القاهرة هي موطن صناعة الفن ومصدر أضوائه 
لم يعتزل أسامة رؤوف الغناء عندما توقفت إذاعة الإسكندرية عن الإنتاج الفني في أواخر التسعينات وظل يقدم فنه في الحفلات العامة في الألفية الثالثة. 

أول لقاء 
لكن لقائي مع أسامة رؤوف بدأ قبل ذلك بكثير حين استمعت له لأول مرة في إحدى الحفلات، كان هو وقتها مطربا معروفا وكنت طفلا صغيرا، لكني أعجبت بغنائه وشهدت إعجاب الجمهور به. لم يخطر ببالي وقتها بأنه سيغني يوما من ألحاني، مر اللقاء مرور الكرام وطوته السنون مع الصفحات القديمة إلى أن عدت إلى مصر بعد سفر طويل وقررت العودة إلى الفن من باب الإذاعة.

نقطة ع الهامش 
قدمت أول لحن لي بالإذاعة عام 1990 فرشح مدير الموسيقى والغناء، الأستاذ مختار أبو السعد، أسامة رؤوف لغنائه وسررت جدا بهذا الترشيح، فكان أسامة أفضل صوت في الإسكندرية على الإطلاق وامتدت نجوميته للقاهرة، ومن ناحية أخرى حقق لي حلما لم أحلم به، أن يغني من ألحاني ذلك الفنان الذي كان نجما بينما كنت أتعلم كيف أمسك بالكمان. أما اللحن فكان لأغنية يصور فيها المؤلف حمدي حامد حبه للإسكندرية قائلا "وكل الدنيا من بعدك .. مجرد نقطة ع الهامش"، وبدأت بروفاته مع أسامة في منزله بالإسكندرية.
مواقف حرجة 
مر هذا اللحن بظروف صعبة أثناء التنفيذ تسببت في عدة مواقف حرجة
الأول كان مع قائد الفرقة الموسيقية، الموسيقار شريف الأبيض، فقد أضفت بعض الآلات النحاسية للفرقة التي كانت تتألف من "تخت" بسيط، وكنت أخشى أن يتسبب ضعف الفرقة في إضعاف اللحن. 
ولكن حدثت مفاجأة قبل التسجيل حين اعترض قائد الفرقة على إدخال الآلات النحاسية إلى الاستوديو قائلا إن هذه الآلات لن يتحملها الاستوديو وأنها "ستزلزل الجدران" .. لم أشأ إحراجه بالإعلان عن مخاوفي من أن الفرقة لن تستطيع أداء النوتة المكتوبة، وشعوري مقدما بأن أي لحن سوف يعاني مما عانت منه عشرات ومئات الألحان طالما سيقدم بنفس الأداء. 
استمر هذا الموقف المتوتر لبضع دقائق إلى أن حضر مهندس الصوت ليقول "لا ضرر من إدخال الآلات النحاسية" فمضى كل شيء كما خطط له. كان أسامة رؤوف موجودا معنا لكنه فضل عدم التدخل مطلقا وانتظر حتى تم التوصل إلى اتفاق.

الموقف الثاني بعد أن تم التسجيل ونسينا ما حدث، جاء مهندس الصوت ليدعونا للاستماع إلى التسجيل .. فوجئت بأن أداء الآلات النحاسية في استهلال اللحن كان سيئا للغاية. اكتشف المهندس عدم رضائي فعرض عليّ إعادة التسجيل لكني شعرت بأنه لا فائدة من ذلك فالخطأ كان في كيفية العزف، ولأني أيضا لم أشأ إحراج العازف طلبت من المهندس حذف الاستهلال كلية وبدء اللحن من لحظة دخول الإيقاع، فأجابني لطلبي وانتهى الأمر.

أما المفاجأة الثالثة فكانت مع مطربنا أسامة رؤوف .. سمعت من الجميع كلمات مثل "جميل .. تمام .. أوكي" لكن قائد الفرقة والعازفين لاحظوا أني لم أكن راضيا. كنت أطمع في أداء أفضل فطلبت إعادة التسجيل. فلما سألني القائد عن ملاحظاتي قلت له كذا وكذا فقال .. "أنا أعرف أسامة أكثر منك .. إن أعاد اللحن فسيؤديه بنفس الطريقة، هذه هي طريقته في الغناء"، فاحترمت خبرته، خاصة وقد أكد لي أعضاء الفرقة نفس الكلام، وبلغ بي الحرج أشده .. فهذه المرة مع المطرب، والإعادة ليس فيها أي إحراج لكن إذا لم أقبل بنتيجة الإعادة سيكون عليّ تغيير المطرب وهو ليس أي مطرب .. إنه مطرب معروف وغنى لملحنين أكبر مني بكثير، وهو أفضل من لدينا في الإسكندرية .. ولأنه شخص خلوق متواضع شديد الأدب كنت أخشى أن أقسو عليه بتحفظاتي لشعوري بأنه إنسان رقيق شفاف كما لو كان قد خلق من زجاج .. لذلك أخفيت عنه الأمر وخرجت إليه مهنئا وشاكرا مع تمنياتي بأن نجتمع في أعمال أخرى

تعلمت من هذه المواقف الكثير .. أهمها أنه صحيح لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن، ولذلك فإن الملحن بصفته قائد العمل يجب أن يتوقع الكثير من المشاكل والعقبات أثناء التنفيذ وعليه أن يتصدى لها بكثير من الصبر والحكمة حتى يصل عمله إلى الناس في أجود صورة "ممكنة"، وهذا أفضل من أن لا يصل مطلقا، وأن الفن الذي يصدر في النهاية عن بشر ذوي إحساس مرهف، وهم قليلون في هذه الحياة المليئة بالنماذج الفجة والسلبية، لا يجب أن يفصلنا عنهم بل على العكس أن يربطنا بهم أكثر فهم مكسب كبير لكل من يقدر الفن والعلاقات الإنسانية
لقاءات أخرى 
في أوائل التسعينات كان لي شرف حضور البروفات الأولى لأغنيتين من أواخر أعماله للإذاعة هما "جميل يا ليل" و"أنا متفائل" من ألحان الموسيقار الراحل محمد عفيفي التي تمت في منزلي 
كان أسامة يقطع مسافة طويلة حتى يصل إلينا لكنه كان يحب الفن والفنانين ولا يبخل بجهد أو وقت في سبيل توصيل رسالته. وكنت عندما ألتقي به أشعر بأنه ما زال شابا لم تأخد السنوات من وسامته ولا بسمته أو هدوئه رغم المشاكل الاجتماعية المزمنة التي مر بها، على العكس أحس بأنه يضيف إلى إحساسي شيئا أصيلا ومبهجا يبشرني بأن الدنيا مازالت بخير 
في آخر حديث بيننا في 2015 دعوته لتكريمه في أحد الاحتفالات الكبرى لكنه اعتذر لأسباب صحية، ثم رجوته أن يجهز لي جميع أغانيه لأنشرها باسمه على الإنترنت فكان جوابه "للأسف لا أحتفظ بأي تسجيلات" .. فنشرت له الأغنيات الثلاث التي حصلت على تسجيلاتها على يوتيوب من باب التسجيل والتقدير، اثنتان منهما على قناة الأستاذ عفيفي والثالثة على قناتي، وأتمنى أن نرى قناة باسم أسامة رؤوف قريبا لكن على أي حال فإن أعمالا عديدة له موجودة على يوتيوب وإن كانت بصورة متفرقة
أيضا هناك أعمال باسم أحمد أسامة رؤوف، نجل الفنان الراحل، وهو مطرب صاعد يتمتع بصوت رائع وأداء جميل ونتمنى أن يكون امتدادا طبيعيا لفن والده الذي افتقدناه كثيرا وأن ينال حظا أوفر في الفن والحياة
سيظل أسامة رؤوف رمزا من رموز الزمن الجميل ومن أحب الفنانين إلى قلبي، وستظل ذكرياتي معه جميلة مضيئة مهما مضى الزمن، رحم الله الفنان الجميل والإنسان الرقيق وأدخله جناته آمين 
تحرير أسامة عفيفي 
روابط 
قناة أسامة عفيفي - يوتيوب 
قناة محمد عفيفي - يوتيوب 
الموسيقار محمد عفيفي 

الأحد، 7 أكتوبر 2018

مؤلفات عبد الوهاب الموسيقية - الحب الأول

موسيقى الحب الأول 
محمد عبد الوهاب 
مقام دو ماجير (عجم الراست) 1949 
يعود بنا محمد عبد الوهاب إلى الجو الرومانسي في موسيقى "الحب الأول"، وهي وإن اختلف موضوعها مازالت تنتمي إلى سلسلة موسيقية تتشابه في الأسلوب وتتقارب في السمات. 
ولكي يضيف إلى هذه المقطوعة شيئا يمنحها بعض الرومانسية أدخل إليها مقطعا مميزا عبارة عن لحن عاطفي غنائي راقص، في الحركة الثانية، يتماشى مع عنوان المقطوعة التي جاءت معظم أجزائها في صيغة تقريرية كأنها تحكي قصة قديمة لم يبق منها غير الذكريات، لذا كان من الأفضل "ترصيع" هذه الذكريات بشيء يشيع البهجة 

في إضافة جديدة إلى الموسيقى البحتة يقدم عبد الوهاب آلة الأكورديون بأداء خاص في الحركة الثالثة، على الأقل لأنه يستخدم آلتين في وقت واحد لكل منهما صوت وأداء مختلف، الأول للميلودي والثاني للردود. نجد مثيل هذا الأداء الخاص في الموسيقى الشعبية لدول شمال البحر المتوسط التي دخلت آلة الأكورديون عن طريقها إلى الشرق العربي مثل إيطاليا وجنوب فرنسا 
لكنها لم تكن المرة الأولى التي استخدم فيها عبد الوهاب آلة الأكورديون، فقد استخدمها في أغاني الأفلام خاصة مع التانجو مثل لحنه الشهير "سهرتُ" عام 1935 

التكوين الفني 
تتألف الموسيقى من 
تمهيد 
موسيقى حرة قصيرة في المقام الأساسي دو ماجير 
1. الحركة الأولى 
    • مقام دو ماجير 
    • إيقاع ملفوف سريع 
    • تتابع من جمل تنازلية تبدأ من قمة السلم 
    • تستخدم الحركة الأولى كتسليم لكنها تتصل مباشرة بالحركة الثانية 
2. الحركة الثانية 
    • حركة غنائية راقصة 
    • مقام نهاوند / دو مينير 
    • إيقاع ثنائي مقسوم 
    • تنتهي بالماجير 
    • موصولة بالحركة الثالثة بدون تسليم 
   • تتميز هذه الحركة الغنائية بإيقاع راقص لم يتكرر في بقية أجزاء المقطوعة
3. الحركة الثالثة 
    • مقام دو ماجير 
    • إيقاع ثنائي 
    • تنقسم إلى قسمين 
     * الأول موسيقى جديدة يتخللها حوار قصير بين القانون والأوركسترا 
    * الثاني عبارة عن تسليم بآلة الأكورديون 
ختام تسليم أوركسترا في ختام المقطوعة بالحركة الأولى 

خصائص 
أنقل هنا مرة أخرى بعد "ليالي الجزائر" ما كتبته بالحرف في تحليل موسيقى "المعادي" لبيان تشابه الأسلوب في ثلاث مقطوعات حتى الآن تنتمي إلى نفس السلسلة من سلاسل موسيقى عبد الوهاب التي أفردنا لها مقالا خاصا، نقد وتحليل د أسامة عفيفي، مؤلفات عبد الوهاب الموسيقية، الحب الأول 

1. وحدة الإيقاع : إيقاع موحد / ثنائي سريع 
2. بساطة التركيب 
    • تقسيم العمل إلى أجزاء 
    • لحن مميز يستخدم كتسليم 
    • استخدام العزف المنفرد 
    • الختام بالمقدمة 
3. الحوار بين الجمل (في المقدمة) 
4. التفرع إلى مقامات قريبة من المقام الأساسي 

تنتمي موسيقى "الحب الأول" إلى سلسلة "المعادي" التي أسميت باسم أول مقطوعة فيها، وتشمل 
سلسلة المعادي 1946 – 1955
ليالي الجزائر - الحب الأول - سامبا - كوكتيل - أيامي - أنغام الشباب 
وتتميز السلسلة بسرعة الحركة في اللحن المميز وخلوه من المقامات الشرقية 

ويختلف أسلوب "الحب الأول" قليلا عن بقية السلسلة في نقطتين 
استخدام  تمهيد حر قصير في البداية 
إدخال إيقاع المقسوم الراقص في الحركة الغنائية 
في المقالات القادمة سنستمر في الاهتمام بالإشارة إلى أي سلسلة تنتمي إحدى مقطوعات عبد الوهاب حتى تسهل معرفة خصائص إحداها بنسبتها إلى سلسلة ما