سيد درويش 1892 - 1923 |
وهو يختلف عن غيره من الفنانين الذين استمرت أعمالهم بعد وفاتهم، إذ أن موسيقاه قد ظهرت ثانية بعد فترة طويلة من التواري زادت على ثلاثين عاما أعقبت وفاته المفاجئة عام 1923. وعودتها بقوة بعد هذا الانقطاع الطويل لتنتشر فى أجيال لم تعاصر سيد درويش ولم تسمع أعماله قط يثير التعجب ويدعو التأمل
ولد سيد درويش مرتين ، الأولى هى ولادته الجسدية لأمه وأبيه فى الإسكندرية عام 1892، والثانية هي ولادته الفنية لوطنه وأمته فى بالقاهرة عام 1917
فى أسرة بسيطة فى أحد أحياء الإسكندرية العريقة ولد الطفل سيد درويش، في حي كوم الدكة الغريب فى كل شيء، فهو على ربوة عالية فى وسط المدينة تطل على أحياء الوسط الراقي بينما تفصله عن ذلك الوسط حواجز اجتماعية واضحة، ليس به مدرسة، فقط كتاب صغير لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم بسيط، بينما فى الخارج مدارس أجنبية ومسارح وشركات وجمعيات خيرية دولية نشطة، وبدا الحي كما لو كان قرية فى وسط المدينة
انتمى سيد درويش مباشرة إلى الاثنين معا، حيه الشعبي، ومدينته التى جمعت ثقافة أوربا كلها في ذلك الوقت، وهكذا جاء فنه أيضا، أصيلا شعبيا لكنه التف فى ثوب حضاري متقدم للغاية.
لم ينشأ سيد درويش فى أسرة فنية ولم يجد أحدا يشجعه على السير فى اتجاه الفن، بل على العكس لقى العنت والتعنيف والإكراه على عمل أشياء لم يجد فيها إحساسه بذاته، وفى ظل ظروف معيشية غاية فى القسوة كان الفن بالنسبة لمثله ترفا لا يمكن لمسه، وكان عليه أن يشق طريقه بنفسه وحيدا.
بدأ الشيخ الصغير يغنى بين الفصول على مسرح سلامة حجازي، لكنه تلقى استقبالا فاترا من الجمهور الذى تعود صوت الشيخ الشهير وأصيب الشيخ سلامة نفسه بصدمة جعلته يخرج إلى الجمهور ليقدم سيد درويش قائلا ” هذا الفنان هو عبقري المستقبل“ لكن الشيخ سيد أصيب بإحباط كبير جعله يقفل عائدا إلى مدينته فى اليوم التالي.
فى عام 1917 عاد الشيخ سلامة ليكرر نصيحته للشيخ سيد بالذهاب إلى القاهرة ولكنه هذه المرة عرض عليه عرضا آخر أقوى، فكان الشيخ سلامة مقتنعا تماما بموهبة الشيخ سيد، ولذلك طلب منه التلحين ولفرقة جورج أبيض ولرواية كاملة هى فيــروز شاه.
كانت فيروز شاه تجربة خاصة من جورج أبيض الذى اعتاد المسرح الجاد وقرر أن يخفف شيئا من مادته فى هذا العرض كي يجتذب جمهورا أكبر مثل ذلك الذي يرتاد المسرح الكوميدي، ولم تنجح تجربته لكن الجمهور جذبه شيء جديد هو ألحان سيد درويش، لقد تركت انطباعا بأن تيارا فنيا جديدا أتى وأنه أقوى من أن يعرض مرة واحدة.
لم يكن جمهور تلك الليلة فقط هو المتأثر ولكن تناثرت الأخبار إلى الفرق الأخرى المنافسة التى عزمت على استثمار الحدث لصالحها فتسابقت لاكتساب سيد درويش إلى جانبها وأغدقت عليه لاجتذابه. وخلال أشهر أصبح سيد درويش يلحن لجميع الفرق المسرحية بالقاهرة، وكان عطاؤه غزيرا حتى قيل عنه أن باستطاعته تلحين خمس روايات في شهر واحد.
فى عام 1919 اندلعت الثورة الشعبية بقيادة سعد زغلول وكان للشيخ سيد فضل تغذيتها بالأناشيد الوطنية والأغاني التى تعرضت لكل ما هو وطني، وفى طريق الثورة على القصر الفاسد والاحتلال الأجنبي قدمت روايات محلية احتوت على كثير من الرمز ضد الاستبداد وأعلت كثيرا من شأن القيم والرموز الوطنية والشعبية. وحقيقة قام المسرح بدور كبير فى هذا الاتجاه وكانت ألحان سيد درويش هى السبب فى نجاح هذه المسارح والفرق بانتشارها العارم بين الناس وبسرعة فائقة
موسيقى سيد درويش
كان سيد درويش يستلهم ألحانه من الألحان الشعبية البسيطة التى يرددها الناس فى مناسبات مختلفة، وكان يستمع إلى كافة طوائف الشعب من باعة وشيالين ومراكبية وسقايين وفلاحين وعمال وغيرهم. وكان له القدرة على تحويل تلك النغمات البسيطة إلى ألحان ذكية يستطيع كل الناس ترديدها فى سهولة.
يحكى عنه صديقه الكاتب بديع خيري أنه كان يصطحبه إلى حي بولاق بالقاهرة ليستمع إلى "بائع عجوة" ينادى فى نغمات جميلة مرددا "على مال مكة .. على مال جدة .. مال المدينة يا شغل الحجاز"، وظهرت تلك النغمات فى لحنه الشهير "مليحة قوى القلل القناوى".
استطاع سيد درويش التعبير عن هموم وطنه وآماله فى أصدق صورة، باللحن والكلمة. ومن أهم أسباب انتشار موسيقى وألحان سيد درويش أنها بسيطة وسهلة مع عمق نغماتها وتأثيرها القوي فى النفوس. ولم تكن ألحانه تحتاج إلى أصوات محترفة لترددها، وقد كانت الأغاني السائدة فى ذلك الوقت من أصول تركية غير معبرة عن البيئة والمزاج المصري، ومليئة بالتراكيب المعقدة والزخارف اللحنية وهو ما كان معروفا بموسيقى "الصالونات" يسمعها فقط خاصة العائلات والطبقة الأرستقراطية من الأتراك وخاصتهم، كما أن موضوعاتها اقتصرت على الحب والغرام والهجر والفراق. لكن سيد درويش استطاع أن يجعل الغناء للجميع، وأحس المصريون لأول مرة فى العصر الحديث بأن لهم موسيقاهم المعبرة عنهم وعن جذورهم ومشاعرهم.
وعمل سيد درويش كثيرا على إيقاظ الروح الوطنية بين المصريين بألحانه وبما يختار لها من كلمات معبرة، بعضها من نظمه هو، والبعض الآخر من تأليف الشعراء الوطنيين. وكان أحيانا يعجب بكلمات منشورة فى إحدى الصحف فيقوم بتلحينها على الفور دون معرفة مسبقة بمؤلفها، ومنها لحن " قوم يا مصري" لبديع خيري، فقد كان الشعور الوطني يوحد بين الكتاب والفنانين فى وقت ساد فيه الاحتلال وفسدت السلطة، ولم يتقاض أجرا عن تلحينه لأعظم ألحانه الوطنية.
آثــار مدرسة سيد درويش فى الموسيقى
يقول الموسيقيون فى مصر ، كبارهم وصغارهم" كلنا خرجنا من عباءة سيد درويش". وهم يعترفون بذلك لأنه كان المجدد الأول فى العصر الحديث، ولأن التطور الذى أحدثه كيفا وكما كان كفيلا بمد من جاءوا بعده من الفنانين بمدد لم ينفد بعد وقد مضت تسعون سنة على وفاته، وتكفى هذه الشهادة لإثبات مدى أصالة عن هذا الفنان. وكانت الموسيقى قبله من عزف وغناء وتأليف وتلحين لمئات السنين تهتم بالقوالب الشكلية والزخرفة بصرف النظر عن الجوهر والمضمون، واتفق فى ذلك الفن التركي مع بقايا الفن الأندلسي من الموشحات وانفصال كلاهما بالتالي عن واقع الحياة والناس ، وقد توجه سيد درويش بالموسيقى نحو الأصول الشعبية والتحديث فى آن واحد.
وألحان سيد درويش ملء الأسماع حتى اليوم، ولحسن الحظ هي موجودة ومتداولة بقوة في مواقع كثيرة الآن على الإنترنت، وكنا عند إنشاء كلاسيكيات الموسيقى العربية قبل تسع سنوات قلقين من احتمال تواري فن سيد درويش مرة أخرى، ولذلك اهتممنا بإعادة تقديمه خاصة للشباب المتطلع إلى الأصالة والباحث عن الهوية. وسنكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى أعماله، كما نشير إلى مراجع صفحات كلاسيكيات الموسيقى العربية التي خصصت كثيرا من الحديث عن الفنان الخالد، والذي نتمنى للأمة العربية أن تنجب مثله مرة أخرى، وما أحوجنا لذلك.
حقق سيد درويش كل هذا التطور في فنون الموسيقى العربية في ست سنوات فقط هي كل عمره الفني، من 1917 حتى 1923، ورحل الفنان الكبير عن الدنيا في عز الشباب في 15 سبتمبر 1923 عن 31 عاما لا غير، وهو ما يشير إلى عبقرية نادرة أضاءت الطريق لكل الفنانين بعده، ونفذت إلى أسماع وقلوب الناس عبر أكثر من تسعين عاما.
للمزيد:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق